موقع البرهان - أصناف أهل الكفر والضلال من حيث العلم والعمل

من خلال ما سردنا من الآيات عن قصص الأنبياء مع أقوامهم يتبين لنا أن العقلية الجمعية للأقوام ظلت متمسكة بموروثها العقدي، معرضة تماماً عن مجرد السماع لرسالة الأنبياء. وقد دخل تحت هذه العقلية الجمعية كذلك عوام المجتمع ورعاعه، وهم على كل حال يتبعون ما تعارف عليه المجتمع، فما كان في العرف صواباً وعليه ملؤهم وقادتهم فهو الصواب، وما كان خطأً في العرف وعلى ألسنة البارزين والزعماء وتردد في وسائل الإعلام خطؤه فهو الخطأ. ولكن الناظر في أحوالهم يمكن أن يصنفهم إلى ثلاثة أصناف: الصنف الأول: من فقدوا العلم والعمل، وذلك لأنهم قوم عدموا معرفة الحق وغلب عليهم الجهل، وفقدوا بما أركسوا فيه من الباطل الفطرة التي تميز الحق من الباطل، وانحط بهم خور العزائم وضعف الإرادة حتى أعرضوا عن الحق كلية، وانشغلوا عنه بالشهوات والملذات ومتاع الحياة الدنيا، قال تعالى: ((اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ)) [الأنبياء:1-3]، فهؤلاء فسدت معارفهم وإرادتهم، يقول ابن كثير في تفسير قوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ)) [النحل:104] يقول: (يخبر تعالى أنَّه لا يهدي من أعرض عن ذكره وتغافل عما أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم ولم يكن له قصد إلى الإيمان بما جاء من عند الله، فهذا الجنس من الناس لا يهديهم الله إلى الإيمان بآياته وما أرسل به رسله)(<a href="/articles.aspx?id=1937&selected_id=-1951&page_size=5&links=true#1" name="ref1">[1]</a>). ومنهم قوم تلبسوا بباطل نشئوا عليه وتربوا فيه، فألفوه واستحكم في نفوسهم وقلوبهم، فلما عُرض عليهم الحق نفروا منه نفرة الحمر المستنفرة التي فرت من قسورة؛ لأنهم أحسوا بضعف ما لديهم من الباطل أمام قوته، فرفضوا أن يفتحوا قلوبهم للنور الوافد، وعطلوا عقولهم، وحكموا أهواءهم، وكان بقاؤهم على ما هم عليه ولو كان باطلاً أحب إليهم من الحق والهدى والنور، ثم بنوا حياتهم ومنهجوها وفق ما اختار لهم هواهم، وفي هؤلاء يقول تعالى: ((أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ)) [الجاثية:23]، ويقول تعالى: ((وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنطِقُونَ)) [النمل:83-85]، ويقول تعالى: ((بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ)) [يونس:39]. وهؤلاء يشتد بهم الندم يوم القيامة، فيصرخون قائلين: ((وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ)) [الملك:10]، ويقول تعالى عنهم: ((وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ)) [فاطر:37]. يقول ابن القيم رحمه الله: (وقد يمرض القلب ويشتد مرضه ولا يعرف به صاحبه لاشتغاله وانصرافه عن معرفة صحته وأسبابها، بل قد يموت وصاحبه لا يشعر بموته، وعلامة ذلك أنه لا تؤلمه جراحات القبائح ولا يوجعه جهله بالحق وعقائده الباطلة؛ فإن القلب إذا كان فيه حياة تألم بورود القبيح عليه وتألم بجهله بالحق بحسب حياته: وما لجرح بميت إيلام(‏<a href="/articles.aspx?id=1937&selected_id=-1951&page_size=5&links=true#2" name="ref2">[2]</a>) وقد يشعر بمرضه ولكن يشتد عليه تحمل مرارة الدواء والصبر عليها، فهو يؤثر بقاء الداء على مشقة الدواء؛ فإن دواءه في مخالفة الهوى وذلك أصعب شيء على النفس وليس لها أنفع منه، وتارة يوطن نفسه على الصبر ثم ينفسخ عزمه ولا يستمر معه لضعف علمه وبصيرته وصبره، كمن دخل في طريق مخوف مفض إلى غاية الأمن وهو يعلم أنه إن صبر عليه انقضى الخوف وأعقبه الأمن، فهو محتاج إلى قوة صبر وقوة يقين بما يصير إليه ومتى ضعف صبره ويقينه رجع من الطريق ولم يتحمل مشقتها ولا سيما إن عدم الرفيق واستوحش من الوحدة وجعل يقول: أين ذهب الناس فلي بهم أسوة. وهذه حال أكثر الخلق وهي التي أهلكتهم)(‏<a href="/articles.aspx?id=1937&selected_id=-1951&page_size=5&links=true#3" name="ref3">[3]</a>). الصنف الثاني: قوم عرفوا من العلم ما يمكنهم من التمييز بين الحق والباطل، ومع ذلك اتبعوا ما يعرفون أنه باطل إيثاراً لأهواء النفوس وشهواتها، قال تعالى: ((الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)) [البقرة:146]. ذكر ابن إسحاق(‏<a href="/articles.aspx?id=1937&selected_id=-1951&page_size=5&links=true#4" name="ref4">[4]</a>) أن الوليد بن المغيرة اجتمع ونفر من قريش -وكان ذا سن فيهم- وقد حضر الموسم، فقال: إن وفود العرب ستقدم عليكم فيه وقد سمعوا بأمر صاحبكم، فأجمعوا فيه رأيًا واحدًا ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضاً. قالوا: فأنت فقل وأقم لنا رأياً. قال: بل أنتم فقولوا وأنا أسمع. قالوا: نقول: كاهن. فقال: ما هو بكاهن؛ لقد رأيت الكهان فما هو بزمزمة الكاهن وسجعه. فقالوا: نقول: مجنون. فقال: ما هو بمجنون؛ ولقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته. قالوا: فنقول شاعر. قال: ما هو بشاعر؛ قد عرفنا الشعر برجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه فما هو بالشعر. قالوا: فنقول ساحر. قال: ما هو بساحر؛ قد رأينا السحار وسحرهم فما هو بنفثه ولا عقده. فقالوا: ما تقول يا أبا عبد شمس؟ قال: والله إن لقوله حلاوة، وإن أصله لغدق، وإن فرعه لجني، فما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول أن نقول: ساحر يفرق بين المرء وبين ابنه وبين المرء وبين أخيه وبين عشيرته. فتفرقوا عنه بذلك فجعلوا يجلسون للناس حين قدموا الموسم لا يمر بهم أحد إلا حذروه، فأنزل في الوليد ((ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا)) [المدثر:11] إلى قوله: ((سَأُصْلِيهِ سَقَرَ)) [المدثر:26]، وأنزل الله في الذي كانوا معه ((الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ)) [الحجر:91] أي: أصنافاً ((فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ)) [الحجر:92]. الصنف الثالث: قوم عدموا العلم والمعرفة، وفقدوا قابلية التعلم لإعجابهم بأنفسهم وبما سبق إلى أذهانهم وجمودهم الشديد عليه، ولكنهم مع جمودهم العلمي لم يفقدوا فاعليتهم، بل هم من أرباب الإرادات الصلبة والعزائم القوية والإقبال على ما يظنون أنه هو الصواب بحماس شديد وروح شبابية منقطعة النظير، وهذا الحماس في مجال العمل، وقد ساهم هذا الجد والاجتهاد بميدان العمل في الجمود العلمي والمعرفي، ورحم الله القائل: <div dir="rtl" align="center"> <table id="table1" dir="rtl" style="MARGIN-LEFT: -19.3pt; BORDER-COLLAPSE: collapse" cellspacing="0" cellpadding="0" border="0"> <tbody> <tr style="HEIGHT: 27.4pt"> <td style="BORDER-RIGHT: #d4d0c8; PADDING-RIGHT: 5.4pt; BORDER-TOP: #d4d0c8; PADDING-LEFT: 5.4pt; PADDING-BOTTOM: 0cm; BORDER-LEFT: #d4d0c8; WIDTH: 145pt; PADDING-TOP: 0cm; BORDER-BOTTOM: #d4d0c8; HEIGHT: 27.4pt; BACKGROUND-COLOR: transparent" valign="top" width="193"> إذا لم يكن عون من الله للفتى </td> <td style="BORDER-RIGHT: #d4d0c8; PADDING-RIGHT: 5.4pt; BORDER-TOP: #d4d0c8; PADDING-LEFT: 5.4pt; PADDING-BOTTOM: 0cm; BORDER-LEFT: #d4d0c8; WIDTH: 28.1pt; PADDING-TOP: 0cm; BORDER-BOTTOM: #d4d0c8; HEIGHT: 27.4pt; BACKGROUND-COLOR: transparent" valign="top" width="37"> </td> <td style="BORDER-RIGHT: #d4d0c8; PADDING-RIGHT: 5.4pt; BORDER-TOP: #d4d0c8; PADDING-LEFT: 5.4pt; PADDING-BOTTOM: 0cm; BORDER-LEFT: #d4d0c8; WIDTH: 140.4pt; PADDING-TOP: 0cm; BORDER-BOTTOM: #d4d0c8; HEIGHT: 27.4pt; BACKGROUND-COLOR: transparent" valign="top" width="187"> فأول ما يجني عليه اجتهاده </td></tr></tbody></table></div> وقال تعالى: ((أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا)) [فاطر:8]، وقال عز وجل: ((قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا)) [الكهف:103] ((الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا)) [الكهف:104] وقال تعالى: ((وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً)) [الغاشية:2-4]. وأبرز مثل لهؤلاء هو (صواب) الذي كان عبداً لبني عبد الدار، فقد حمل راية قريش في أحد بعد أن تساقط أسياده قتلى، وأبدى من الشجاعة والبطولة ما فاقهم به، وكل ذلك كان منه عن قناعة بمعتقدات قومه، ولم يكلف خاطره أن يفكر فيها وفيما يقوله محمد صلى الله عليه وسلم، وينظر أيهما حق ثم يتبعه ويقاتل من أجله، ويسجل صفحته البطولية على علم وبصيرة. <div style="mso-element: footnote-list"> <hr align="right" width="33%" size="1"> <div id="ftn1" style="mso-element: footnote"> ([<a name="1">1</a>]) تفسير ابن كثير (2/775). </div> <div id="ftn2" style="mso-element: footnote"> ([<a name="2">2</a>]) هو شطر من بيت شعر للمتنبي وأوله: من يهن يسهل الهوان عليه...</div> <div id="ftn3" style="mso-element: footnote"> ([<a name="3">3</a>]) إغاثة اللهفان لابن القيم (1/69).</div> <div id="ftn4" style="mso-element: footnote"> ([<a name="4">4</a>]) سيرة ابن إسحاق (2/132).</div></div>

بحث