أنا المسمى مرتضى رادمهر، ابن الدكتور فرزاد رادمهر، ولدت عام (1351ش) (الموافق لـ1392هـ، 1972م)، في إحدى الضواحي الراقية من مدينة (طهران) عاصمة إيران.
مما أذكره من شجرة نسب أسرتي حسب ما رواه لي والدي ومما هو مشهور في العائلة: أن نسبنا يرجع إلى الأسرة المالكة من سلالة ملوك القاجار، فقد كان جد والدي حفيدًا لفخر الملوك، وهو أخو الملك القاجاري (ناصر الدين)، ولم تزل عائلة والدي تعتز بتقاليدها الملوكية مما ورثتها من الأسرة المالكة القاجارية من السنن والعادات الأشرافية، وتحاول أن تنسجم مع كل ما هو غربي أو أوروبي.
أما والدتي الدكتورة السيدة عالية الحسيني، فيرجع نسبها إلى السادات الحسينيين، وهي تعتز كثيرًا بتقاليدها المذهبية، وتلتزم بجميع العادات والرسوم الموروثة حرفيًا وإن كانت طبيبة مثقفة في الظاهر متنورة تعيش عصرها..
تتباين وجهات نظر عائلة والدي وعائلة والدتي تباينًا واضحًا، وتكاد لا تلتقي في شيء، فلكل عائلة اتجاهها الفكري الخاص، وشخصيتها الاجتماعية الخاصة بها.
أما ما جمع بين والديَّ تحت سقف واحد فحكاية ترجع إلى أيام زمالتهما في كلية الطب، فقد كان والدي ووالدتي يدرسان في كلية واحدة وفي نفس المرحلة الدراسية من نفس التخصص، وكانا طالبين متفوقين نشيطين ذكيين مجتهدين، يُحصِّلان دائمًا على المرتبة الأولى في الدراسة..
هذا التفوق العلمي والزمالة الدراسية والاحتكاك الكثير في المجتمع الجامعي أقام صلة احترام وودٍّ بينهما واستمرت الحكاية إلى أن وقفت على قصة الزواج التي جمعت بينهما في عش الزوجية.
لا شك أن الحكاية لم تكن بهذه البساطة، فالتباين في الرؤية والتفكير الساذج بين الطبقات المختلفة في المجتمع لابد أن يلعب دوره، فقد كانت عائلة الوالد تعتبر نفسها من الأسر الراقية والمثقفة ثقافة عالية ومن سادة المجتمع، ولهذا وقفت سدًا منيعًا تعارض هذا الزواج، وقد اشتد الخلاف بين الأسرتين فكل منهما تعتز بثقافتها ونسيجها، ولا ترى الثاني يضاهيها أو يماثلها، ومع كل هذا وذاك أصر الوالدان على موقفهما، وفي النهاية تم الزواج رغم جميع الموانع والمخالفات، لكن بقي ظِلال هذا التباين الفكري والمنهجي بين العائلتين؛ مما خلق جوًا فكريًا وروحيًا متوترًا ظل يؤثر في كل مواقف الأسرة وبرامجها.
حصل هذا الزواج في ظل تلك الظروف التي أشرت إليها، وبدأت الأسرة الجديدة تخطو مسيرتها في الحياة بشكل طبيعي، لكن بقيت آثار حكاية أخرى تلاحق الأسرة طوال مسيرتها، لعلها جديرة بالذكر هنا، وهي:
أنه في المرحلة الجامعية كان شخص آخر يسمى الدكتور منصور حكاكيان زميلًا لوالدتي في الدراسة، وقد كان من أقارب الأقربين لوالدتي، ويبدو أنه كان يرجو الزواج من والدتي، وقد سعى في ذلك.
ويوم أن تم زواج والدتي من والدي ذهبت أحلام الرجل أدراج الرياح، وحمل في نفسه بغضًا وحقدًا شديدًا على والدي، وكان يسعى دائمًا ليعكر الجو على والدي، فيتشاجر معه كلَّما وجد فرصة؛ لعله يستطيع أن ينتقم منهما أو يشفي غليل صدره..
كان يحاول تشويه صورة الوالد في كل المجالس والمجامع العلمية، ويثير الظنون والشكوك عليه في المجتمع الجامعي، ويحاول أن يُفسد عليه الجو بأي طريق أمكنه..
كان وَقْع هذه المواقف الرخيصة على والدي كبيرًا؛ حتى اضطر أن يتنازل عن كل النجاح الذي حققه إذا كان برفقة حكاكيان، فلقد كان عضوًا في الهيئة العلمية في الجامعة، وكان أستاذًا في كلية الطب، وباحثًا في قسم المختبر والكشف العلمي، فترك هذا كله، بل وترك البلد وسافر إلى الخارج.
ومن الأشياء الطريفة التي حصلت في تلك الفترة: أن الوالد استطاع بعد دراسات وتحقيقات كثيرة أن يصل إلى علاج لسرطان الرئة، ولما سمع الدكتور «حكاكيان» بالموضوع حاول جاهدًا أن يسرق تركيب صناعة الدواء من أبي ليسجله لنفسه، لكن كل مساعيه باءت بالفشل، فثار الحقد والكره الدفين في نفسه من يوم أن خفقت آماله في الزواج من الوالدة، فبدأ يفتري على الوالد ويسعى لتخريب سمعته والتطاول على شخصيته، ولاسيما في المجامع العلمية والجامعية.
وضاقت الأرض على الوالد بما رحبت، إلى أن اضطر في عام (1357ش) (الموافق لـ1978م، و1398هـ) للسفر إلى فرنسا لإكمال الدراسة في تخصص المخ والأعصاب.
قضى الوالد ثلاث سنوات في فرنسا، وكان قد تزوج هناك بفتاة نصرانية تسمى السيدة الدكتورة «ماريلا»، كانت زميلة له في الدراسة.
«ماريلا» كانت بنت الدكتور فريشتر (Frishter) أحد أساتذة الوالد.
سألت «ماريلا» والدي يومًا: من أين أنت؟ فأجابها الوالد بأنه من إيران.
ثم سألت «ماريلا» والدي، هل هو محمدي أو مسلم، وكان والدي يعرف أن «ماريلا» معجبة بمذهب المحمديين - أي السُّنَّة - فقال لها بأنه محمدي، فصدقت الوالد وتم الزواج.
ولكن بعد فترة من الزمن أدركت «ماريلا» بأن الوالد ليس محمديًا بل شيعيًا.
حاول الوالد أن يقنع زوجته بأنه محمدي، لكن كل محاولاته فشلت، وقالت له «ماريلا» بالحرف الواحد: إن المحمدية لا تعني أن المحمديين يعبدون محمدًا، أو أنهم جعلوه رمزًا جامدًا في حياتهم يزينون بيوتهم وحياتهم بصوره وتماثيله، وإنما المحمديون هم الذين جعلوا حياتهم وعاداتهم وتقاليدهم وِفقًا لما كان يقوم به نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، ويُسمون بأهل السُّنَّة والجماعة.
وقالت لوالدي: أنتم أيها الإيرانييون تلعبون على كل الحبال، وتُحرِّفون الكلم عن مواضعه، ولكم ألف وجه ووجه في الحياة..
وهكذا فُسخ هذا الزواج بعد فترة وجيزة.
بعد هذا ترك الوالد فرنسا وسافر إلى كندا، وظل يعيش في الخارج مدة اثني عشر عامًا.
طوال هذه الفترة الطويلة التي قضاها الوالد في الخارج بقي على صلة دائمة بالأسرة عن طريق الاتصالات الهاتفية، وكذلك سافرت أمي مرتين لزيارة الوالد هناك، وفي فترة غياب الوالد كان والده - جدي - يرعى شؤون البيت ويهتم بنا.
وكان الدكتور حكاكيان يزداد خبثًا على خبث، ووصل به الأمر إلى درجة أنه أكثر من مرة وبطرق مختلفة طلب من والدتي أن تطلب من الوالد الطلاق ليتزوجها هو، لكن والدتي كانت آية في الحياء والوفاء؛ مما جعلت الدكتور حكاكيان يكاد يموت غيظًا، وتفشل خططه كلها.
وفي عام (1370ش) (الموافق لـ1991م، 1411هـ)، رجع الوالد إلى طهران مرة أخرى، ودخل بقوة أكثر في المجتمع الجامعي والعلمي وبدأ يدرِّس في الجامعة.
ووصلت الدكتورة «ماريلا» - مطلقة والدي - بعدما تزوجت من رجل آخر إلى طهران لزيارة والدي، وكانت على صلة جيدة - في دائرة الشؤون الأخلاقية - مع والدي، فكل يحترم الآخر.
وكان من وفائها للوالد أنها أخذت تركيب دواء سرطان الرئة - الذي كاد يضيع بين أوراق الوالد القديمة - إلى أمريكا، وبعد دراسات مختبرية عديدة أخرجت النتائج ضمن عدة بحوث ونشر في كتاب هناك، وأرسلت الدكتورة «ماريلا» نسخة من الكتاب المزبور إلى الوالد، وكان والدي دومًا يُرجع الفضل في هذا النجاح إلى مطلقته الوفية المحترمة الدكتورة «ماريلا» النصرانية.
ولم يُسجل دواء سرطان الرئة باسم الوالد، لكنه كان يعتز دومًا أنه شارك في هذا العمل الإنساني العظيم.
إن غياب الوالد عن الأسرة والبلد طوال هذه الفترة الطويلة لم يكن أمرًا هينًا بالنسبة لنا، فقد ذاقت الأسرة الأمرين، ففي غيابه ظل الناس الذين كانوا يعارضون هذا الزواج يحفرون لنا الحفر ولا يكادون يسكتون عنَّا؛ مما جعل جو البيت جوًا متوترًا دائمًا، وجعلنا نعيش في اضطراب وحيرة، وكانت ثمرة هذا الزواج ثلاثة أولاد: ابنين وبنتًا.
وما أريد أن أقوله هنا: هو أن أسرتنا كانت مزيجًا من ثقافتين مختلفتين، بل متناقضتين تمامًا.
وبعبارة أخرى: حضارتين متعارضتين، وأفكار يناقض بعضها بعضًا، وعاداتٍ وتقاليد لا تستطيع أن تهضم بعضها بعضًا تجمعت تحت سقف واحد، فعائلة الأب كانت رمزًا للرؤية الغربية والانحلالية للحياة، وعائلة الأم على رأس الهرم في الالتزام بالتقاليد والعادات المذهبية الجوفاء، وكانت تحاول جاهدة أن تتفاهم رغم كل هذه التناقضات.
لم نكن نعاني من أي ضيق اقتصادي، بل كنَّا نعيش في مرح وحب، ولا ينقصنا شيء من متع الحياة ولا من الحب والحنان.
ومما لاشك فيه أن من أماني كل أب وكل أم أن يعيش أولادهما في سعادة وصحة، وأن يوفَّقوا في الحياة، وكانت هذه أُمنيَّة والديَّ كذلك.
كان والدي وأسرته الكبيرة يتمنون أن أُصبح طبيبًا متخصصًا مشهورًا، لكن أُسرة والدتي كانت تحرص وتصِرُّ على أن أصبح عالم دين.
وإن كنت اليوم مطرودًا من والديَّ وأسرتي وقد نبذوني بعيدًا عنهم، لكنني لا أستطيع أن أنسى تلك القُبلات الحارة التي كانت تترجم حنان والدتي العزيزة على خدي، ولا تلك النظرات التي كانت تمتلئُ حبًا وحنانًا من عيون والدي العزيز، ويعلم الله عز وجل أن لهما مكانًا في صدري، وأن قلبي يعتز بحبهما بعد حب الله عز وجل والعشق لعقيدتي وإيماني، وأنني أحبهما حب الولد البار لوالديه، حب ابن يحترق حزنًا وألمًا وهو يرى والديه ينكران ويجحدان الحق الذي معه.
وإنني آسف جدًا إذ أصبحت سببًا في أن يترك والديّ بلدهما للأبد، وأعتذر منهما أشد الاعتذار.