موقف يزيد من أحداث الكوفة(12/2)
مدير الموقع
الإثنين 6 ديسمبر 2010 م
<p align="left"><font size="3" face="Simplified Arabic"><strong><font color="#ff0000">د. علي الصلابي</font></strong></font></p> <p align="justify"><font size="3" face="Simplified Arabic"><strong><font color="#ff0000">رابعاً: موقف يزيد من أحداث الكوفة:</font><br>لما تأكّد ليزيد تصميم الحسين على الاستجابة لدعوة أهل الكوفة، كتب لابن عباس -لأنه شيخ بني هاشم في عصره وعالم المسلمين- قائلاً، ونحسب أن رجالاً أتوه من المشرق فمنّوه الخلافة، فإنهم عندك منهم خبرة وتجربة، فإن كان فعل فقد قطع وشائج القرابة وأنت كبير أهل بيتك والمنظور إليه، فاكففْه عن السعي في الفرقة، ثم كتب بهذه الأبيات إليه وإلى مكة والمدينة من قريش:</strong></font></p> <p align="center"><font size="3" face="Simplified Arabic"><strong><font color="#0000ff">يا أيـــها الراكـــبُ الغــادي لطيّـــتهِ    على عُـــذَاقِرةِ في ســيرهــا قـــحــمُ<br>أبلغْ قريشـــاً علــى نأيْ الــمزار بها    بيـنـي وبـــيــن حــــسين اللهُ والرحمُ</font><br>إلى أن قال:</strong></font></p> <p align="center"><font size="3" face="Simplified Arabic"><strong><font color="#0000ff">يا قومــَنا لا تشبّوا الحربَ إذ خمدتْ    وأمـسكوا بجبال الســّلم واعتــصموا<br>لا تركــبوا البغيَ إنّ البغيَ مصرعهُ    وإنّ شــاربَ كــأسِ البغــي يتــخـــمُ<br>فــقد غرّتِ الحــربُ مَن كــان قبلَكمُ    من الــقرون وقد بــادتْ بهــا الأمــمُ<br>فأنصــفوا قومَــكم لا تهــلكوا بذخــاً    قـــربَ ذي بــذخ زلّــت به القــــــدمُ</font></strong></font></p><font size="3" face="Simplified Arabic"><strong><font color="#0000ff"> </font><p align="justify"><font color="#0000ff"><br></font>فكتب إليه ابن عباس: إني لأرجو ألاّ يكون خروج الحسين لأمر تكرهه، ولست أدع النصيحة له في كل ما يجمع الله به الألفة وتُطفى بها الثائرة.<br>وفي تلك الأثناء كانت الأحداث تتسارع، وذلك بعدما أخذ الشيعة يختلفون على مسلم بن عقيل ويبايعونه، وعندما أحس النعمان بن بشير الأنصاري والي الكوفة بخطورة الوضع قام فخطب في الناس وقال: اتقوا الله عباد الله، ولا تسارعوا إلى الفتنة والفرقة، فإن فيها يهلك الرجال، وتُسفك الدماء وتُغصب الأموال وقال: إني لم أقتل من لم يقاتلني، ولا أثب على مَن لا يثب عليّ، لا أشاتمكم ولا أتحرّش بكم، ولا آخذ بالقرف ولا الظنة والتهمة، ولكن إن أبديتم صفحتكم لي، ونكثتم بيعتكم، وخالفتم إمامكم، فو الله الذي لا إله غيره لأضربنّكم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي، ولو لم يكن لي منكم ناصر، أما إني أرجو أن يكون من يعرف الحق منكم أكثر ممن يرديه الباطل.<br>وأثارت سياسة النعمان بن بشير -رضي الله عنه- مع أنصار الحسين حفيظة الناصحين للأمويين، وأحد الموالين لهم في الكوفة وهو عبد الله بن مسلم بن سعيد الحضرمي، حليف بني أمية، فقام إلى النعمان بن بشير، وبين له أن طريقته هذه إنما هي طريقة المستضعفين، وأنه يجب عليه أن ينهج سياسة البطش والقوة حيال المتربصين بأمن الكوفة، ولكن رد النعمان بن بشير -رضي الله عنه- كان واضحاً بأنه يراقب الله في سياسته </p> <p align="justify"><br>ولم تعجب يزيد سياسة النعمان، فعزله من ولاية الكوفة، وعين بدله عبيد الله بن زياد، وكتب إليه: إن شيعتي من أهل الكوفة كتبوا إليّ يخبروني أن ابن عقيل بالكوفة يجمع الجموع ليشق عصا المسلمين، فسرْ حين تقرأ كتابي هذا حتى تأتي أهل الكوفة فتطلب ابن عقيل كطلب الخرزة، حتى تثقفه فتوثقه أو تقتله أو تنفيه والسلام، وغادر ابن زياد البصرة بعد أن اتخذ عدة احتياطات خوفاً من حدوث اضطرابات، وأناب عنه أخوه عثمان بن زياد على البصرة، ثم خرج من البصرة ومعه وجوه أهل البصرة أمثال مسلم بن عمرو الباهلي، وشريك بن الأعور الحارثي وحشمه وأهل بيته. وأقبل ابن زياد إلى الكوفة ودخلها متلثماً والناس قد بلغهم إقبال الحسين إليهم، فهم ينظرون قدومه، فظنوا حين قدم عبيد الله أنه الحسين بن علي، فأخذ لا يمر على جماعة من الناس إلاّ سلموا عليه وقالوا: مرحباً بك يا ابن رسول الله، قدمت خير مقدم، فلما أكثروا عليه صاح فيهم مسلم بن عمرو وقال: تأخروا هذا الأمير عبيد الله بن زياد، فلما نزل في القصر نودي الصلاة جامعة، فاجتمع الناس فخرج إليهم، ثم خطبهم، ووعد من أطاع منهم خيراً، وتوعد من خالف وحاول الفتنة منهم شراً.</p> <p align="justify"><br><font color="#ff0000">خامساً: عبيد الله بن زياد وخطواته للقضاء على مسلم بن عقيل وأنصاره: </font><br><font color="#0000ff">1- اختراق تنظيم مسلم بن عقيل: </font><br>حرص عبيد الله بن زياد على جمع المعلومات بوساطة جواسيسه على الفئات المعارضة، واستطاع أن يخترق أتباع مسلم بن عقيل، وقد كلّف أحد رجاله بهذه المهمة، فأعطاه مبلغاً من المال، وكان الرجل من أهل الشام يُقال له معقلاً، وكان مقدار المبلغ ثلاثة آلاف درهم وقال: خذْ هذا المال، وانطلق فالتمس مسلم بن عقيل، وتأتّ له بغاية التأتي، فانطلق الرجل حتى دخل المسجد الأعظم، ثم نظر إلى رجل يكثر الصلاة إلى سارية من سواري المسجد، فجلس الرجل حتى إذا انفتل من صلاته، فدنا منه وجلس، فقال: جُعلت فداك، إني رجل من أهل الشام مولى لذي الكلاع، وقد أنعم الله عليّ بحب أهل بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحب من أحبهم، ومعي هذه الثلاثة الآلاف درهم، أحب إيصالها إلى رجل منهم، بلغني أنه قدم هذا المصر داعية للحسين بن علي، فهل تدلني عليه لأُوصل هذا المال إليه ليستعين به على بعض أموره، ويضعه حيث أحب من شيعته؟ قال له الرجل: وكيف قصدتني بالسؤال عن ذلك دون غيري ممن هو في المسجد قال: لأني رأيت عليك سيما الخير؛ فرجوت أن تكون ممن يتولى أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال له الرجل: ويحك قد وقعت عليّ بعينك، أنا رجل من إخوانك، واسمي مسلم بن عوسجة، وقد سُرِرت بك، وساءني ما كان من حسي قبلك، فإني رجل من شيعة أهل هذا البيت، خوفاً من هذا الطاغية ابن زياد، فأعطني ذمة الله وعهده أن تكتم هذا عن جميع الناس، فأعطاه من ذلك ما أراد، واستطاع الشامي في نهاية المطاف الوصول إلى مسلم بن عقيل، فكان يغدو إلى مسلم بن عقيل فلا يُحجب عنه، فيكون نهاره كله عنده فيتعرّف جميع أخبارهم، فإذا أمسى وأظلم عليه الليل دخل على عبيد الله بن زياد، فأخبره بجميع قصصهم، وما قالوا وما فعلوا في ذلك، وأعلمه نزول مسلم بن عقيل في دار هاني بن عروة. وهكذا استطاع ابن زياد أن يعرف أخبار مسلم بن عقيل وتحركاته.</p> <p align="justify"><br><font color="#0000ff">2 - سجن هانئ بن عروة: <br></font>كان محمد بن الأشعث وأسماء بن خارجة يدخلون على ابن زياد مُسَلّمين، فقال لهما: ما فعل هانئ بن عروة؟ فقالا: أيها الأمير، إنه عليل منذ أيام فقال ابن زياد: وكيف. بلغني أنه يجلس على باب داره عامّة نهاره، فما يمنعه من إتياننا وما يجب عليه في حق التسليم؟ قالا: سنعلمه ذلك، ونخبره باستبطائك إياه فخرجا من عنده، وأقبلا حتى دخل على هانئ بن عُروة، فأخبراه بما قال لهما ابن زياد، وما قالا له، ثم قالا له: أقسمنا عليك إلاّ قمت معنا إليه الساعة لِتسُلَّ سخيمة قلبه. فدعا ببغلته فركبها ومضى معهما، حتى إذا دنا من قصر الإمارة خبُثت نفسه فقال لهما: إن قلبي قد أوجس من هذا الرجل خيفة. قالا: ولِمَ تحدّث نفسك بالخوف وأنت بريء الساحة؟<br>فمضى معهما حتى دخلوا على ابن زياد، فأنشأ ابن زياد يقول متمثلاً:</p> </strong></font><p align="justify"><font size="3" face="Simplified Arabic"><strong></strong></font><font color="#0000ff" size="3" face="Simplified Arabic"><strong>أريـــد حيـــاتَــه ويُــريــد قـــتلـــــي  عَـــــذِيرَك من خـــَلِلــِكَ مــن مــراد</strong></font><font size="3" face="Simplified Arabic"><strong><br>قال: هانئ وما ذاك أيها الأمير؟<br>قال ابن زياد: وما يكون أعظم من مجيئك بمسلم بن عقيل وإدخالك إياه منزلك، وجمعك له الرجال ليبايعوه؟ فقال هانئ: ما فعلت وما أعرف من هذا شيئاً، فدعا ابن زياد بالشامي، وقال: يا غلام، ادع لي معقلاً. فدخل عليهم. فقال: ابن زياد لهانئ بن عروة: أتعرف هذا؟ فلما رآه علم أنه إنما كان عيناً عليهم. فقال هانئ: أصدُقُك والله أيها الأمير، وإني والله ما دعوت مسلم بن عقيل وما شعرت به، ثم قصّ عليه قصّته على وجهها. ثم قال: فأمّا الآن فأنا مخرجه من داري لينطلق حيث يشاء، وأعطيك عهداً وثيقاً أن أرجع إليك. قال ابن زياد: "لا والله لا تفارقني حتى تأتيني به. فقال هانئ: أو يجمل بي أن أسلم ضيفي وجاري للقتل؟!! والله لا أفعل ذلك أبداً. فاعترضه ابن زياد بالخيزرانة، فضرب وجهه، وهشم أنفه، وكسر حاجبه، وأمر به فأدخل بيتاً. فبلغ الخبر عمرو بن الحجاج الزبيدي أن هانئاً قد قُتل، فأقبل في قبيلة مذجح، وأحاط بالقصر، ونادى بأنه لم يخلع الطاعة، وإنما أراد الاطمئنان إلى سلامة هانئ، فأمر ابن زياد القاضي شريح بأن يدخل على هانئ، وينظر إليه ويخبرهم أنه حي. ففعل . فقال لهم سيدهم عمرو بن الحجّاج: أما إذا كان صاحبكم حياً فما يعجلكم الفتنة؟ انصرفوا فانصرف.</strong></font></p><font size="3" face="Simplified Arabic"><strong> <p align="justify"><br><font color="#0000cc">3 - استخدام ابن زياد للأشراف للقضاء على تمرّد الكوفة:</font><br>لما بلغ مسلم بن عقيل خبر ضرب وجه هانئ بن عروة، أمر أن ينادي في أصحابه الذين بايعوه، واستخدم كلمة السر وهي: يا منصور أمت، فتنادى أهل الكوفة فاجتمعوا إليه، وكان عدد الذين حصروا أربعة آلاف رجل، فعقد مسلم لعبيد الله بن عمرو بن عزيز الكندي على ربع كندة وربيعة، وأمره أن يسير أمامه بالخيل، ثم عقد لمسلم بن عوسجة الأسدي على ربع مذجح وأسد وأمّره على الرجّالة، وعقد لأبي ثمامة الصائدي على ربع تميم وهمدان، وعقد لعباس بن جعدة الجدلي على ربع المدينة، ثم قدم نحو القصر، ولما بلغ ابن زياد إقباله تحرّز وتمنّع بالقصر، وكان ابن زياد يملك قدراً كبيراً من الدهاء والمكر والخداع؛ إذ إنه بمجرد دخوله القصر جمع وجوه الكوفة، واحتفظ بهم عنده حتى يكونوا وسيلة ضغط مهمة عنده ستثمر عن نتائج إيجابية جداً لصالح ابن زياد. وتقدم مسلم بهذه الجموع، صوب قصر الإمارة التي يتحصن بها ابن زياد، وهنا طلب ابن زياد من أشراف الناس وزعماء الكوفة الذين معه أن يعظوا الناس، ويخذلوهم ويخوفوهم بقرب أهل الشام، وصار هؤلاء الأمراء والزعماء يثبطون الناس، ويذكرونهم بالسلامة والأمن، وأنهم إن لم ينصرفوا فسيُحرمون من العطاء، وسيُساقون إلى الثغور، وسينالهم العقاب الشديد، ولم يكن التثبيط مقصوراً على الأمراء فقط، بل إن النساء كان لهن دور كبير في إضعاف عزيمة المناصرين لمسلم، إضافة إلى الآباء وكبار السن فقد كان لهم نفس الدور. وكانت المرأة تأتي ابنها وأخاها وتقول: انصرف، الناس يكفونك، ويجيء الرجل إلى ابنه وأخيه ويقول: غداً يأتيك أهل الشام، فما تصنع بالحرب والشر انصرف. وأخذت هذه الحرب النفسية التي جوبه بها المؤيدون لمسلم بن عقيل من التهويل والتخويف تعمل عملها بين صفوف الناس، فبدؤوا ينصرفون عن مسلم بن عقيل، وأخذ العدد يتضاءل سريعاً حتى إنه لما قرب المساء لم يبق مع مسلم بن عقيل إلاّ عدد بسيط يتراوح بين الثلاثمائة والخمسمائة رجل، وكان غالبية الذين بقوا مع مسلم بن عقيل من مذجح فأمر ابن زياد، عبيد الله بن كثير بن شهاب الحارثي أن يخرج فيمن أطاعه من مذجح ويسير بالكوفة ويخذل الناس عن ابن عقيل، ويخوفهم بالحرب وعقوبة السلطان، ثم أمر ابن زياد محمد بن الأشعث أن يخرج فيمن أطاعه من كندة وحضرموت، ويرفع راية الأمان لمن يأتيه من الناس، وقال مثل ذلك للقعقاع بن شور الذهلي، وشبت بن ربعي التميمي وحجار بن أبجر العجلي، وشمر بن ذي الجوشن العامري، وأبقى سائر وجوه الناس معه. وأمام هذه الإجراءات السريعة من ابن زياد، وأمام الشد النفسي الذي نازع غالبية من انضموا إلى مسلم بن عقيل أخذ هذا العدد يتضاءل حتى وصل إلى ستين رجلاً، ثم حدثت معركة بين مسلم وأتباعه وبين ابن الأشعث، والقعقاع بن شور، وثبت بن ربعي عند الرحبة، ويبدو أن هذه المعركة لم تدم طويلاً عندما تنبه القعقاع بن شور إلى أن المقاتلين إنما يقاتلون لأجل النجاة، عند ذلك أمر بإفساح الطريق لهم، فهربوا نحو المسجد، ولما أمسى المساء تفرق الناس، وبقي مسلم بن عقيل وحيداً في طرقات الكوفة.</p> <p align="justify"><br><font color="#0000cc">4- القبض على مسلم بن عقيل وقتله: <br></font>أصبح مسلم بن عقيل وحيداً يتردد في طرق الكوفة، فأتى بيتاً فخرجت إليه امرأة، فقال: اسقني، فسقته، ثم دخلت، ومكثت ما شاء الله، ثم خرجت، فإذا به على الباب، فقالت: يا هذا، إن مجلسك مجلس ريبة، فقم، فقال: أنا مسلم بن عقيل، فهل عندك مأوًى؟ قالت: نعم فأدخلته، وكان ابنها مولى لمحمد بن الأشعث، فانطلق إلى مولاه فأعلمه، فبعث عبيد الله الشُّرَط إلى مسلم، فخرج وسل سيفه، وقاتل فأعطاه ابن الأشعث أمانًا فسلمّ نفسه، وفي الطريق نحو ابن زياد بكى مسلم فقيل له: إن من يطلب مثل ما تطلب لا يبكي إذا نزل به مثل الذي نزل بك. قال: إني والله ما لنفسي أبكي، ومالها من القتل أرثي، وإن كنت لم أحب لها طرفة عين تلفاً، ولكني أبكي لأهلي المقبلين إلى الكوفة، أبكي حسيناً وآل الحسين. وأقبل مسلم على محمد بن الأشعث فقال: يا عبد الله، إني والله أراك ستعجز عن أماني، فهل عندك خير تستطيع أن تبعث رجلاً على لساني يبلغ حسيناً عني رسالة؟ فإني لا أراه إلاّ قد خرج إليكم اليوم أو غداً هو وأهل بيته، وإن ما تراه من جزعي لذلك، فتقول: إن ابن عقيل بعثني إليك وهو في أيدي القوم أسير، لا يدري أيصبح أم يمسي حتى يقتل، وهو يقول لك: ارجع بأهلك ولا يغرنّك أهل الكوفة، فإنهم أصحاب أبيك الذي كان يتمنى فراقهم بالموت أو القتل، إن أهل الكوفة قد كذبوك وكذبوني، وليس لكاذب رأي. فقال محمد بن الأشعث: والله لأفعلن ولأعلمن ابن زياد أني قد أمّنتك، ودعا ابن الأشعث إياس بن العباس الطائي، وقال له: اذهب فالقَ حسيناً فأبلغه هذا الكتاب، ثم أعطاه راحلة وتكفل له بالقيام بأهله وداره، وأدخل محمد بن الأشعث مسلم بن عقيل على ابن زياد، وأخبره بما أعطاه من الأمان، فقال ابن زياد: ما بعثناك لتؤمنه ولم يقبل أمانه، واستسقى مسلم وهو بباب القصر، فجاءه عمار بن عقبة بماء بارد، ولكنه لم يستطع أن يشرب لما كان يختلط به من دمه، فتركه ودخل على ابن زياد فقال له: إني قاتلك. قال: كذلك؟ قال: نعم. قال: فدعني أوصِ إلى بعض قومي، قال: أوصِ: فنظر مسلم في جلسائه وفيهم عمر بن سعد بن أبي وقاص، فقال: عمر، إن بيني وبينك قرابة، ولي إليك حاجة، وهي سرّ، فقمْ معي إلى ناحية القصر حتى أقولها لك، فأبى أن يقوم معه حتى أذن له ابن زياد، فقام فتنحى قريباً من ابن زياد، فقال له مسلم: إن عليّ ديناً في الكوفة سبعمائة درهم، فاقضها عني، واستوهبْ جثتي من ابن زياد فوارِها، وابعثْ إلى الحسين، فإني كنت قد كتبت إليه أن الناس معه، ولا أراه إلاّ مقبلاً, فقام عمر، فعرض على ابن زياد ما قال له: فأجاز ذلك كله، وقال: أما حسين فإنه لم يردنا ولا نرده، وإن أرادنا لم نكف عنه، ثم أمر ابن زياد بمسلم بن عقيل، فأصعد إلى أعلى القصر، وهو يكبر ويهلل ويسبح ويستغفر ويصلي على ملائكة الله ويقول: اللهمّ احكمْ بيننا وبين قوم غرّونا وخذلونا، ثم ضرب عنقه رجل يقال له: بكير بن حمران، ثم ألقى رأسه إلى أسفل القصر، وأتبع رأسه بجسده.</p> </strong></font><p align="justify"><font size="3" face="Simplified Arabic"><strong><br><font color="#0000cc">5- قتل هانئ بن عروة: <br></font>واتخذ ابن زياد إجراءً يدل على قسوته وجبروته وظلمه، فقد أمر بهانئ فأُخرج إلى السوق وقُتل، وظل هانئ يصيح لقبيلته مذحج، ولكن لم ينصره أحد، ثم صُلب هانئ ومسلم في سوق أمام الناس، ثم أمر بضرب أعناق اثنين من الذين كانوا يخططون لنصر مسلم بن عقيل، وصلبهما في السوق أيضاً. وكان في وسع ابن زياد أن يرسل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة إلى الخليفة بدمشق، وربما يسجنون أو يعفى عنهم فيما بعد بدلاً من إراقة الدماء وإيجاد الإحن والعداوات بين المسلمين. وقد برهن ابن زياد على بطش الدولة وعسفها، وأنها لا تبالي إلاّ بالحفاظ على سلطانها مهما كلفها ذلك من سفك الدماء، ويبدو أن مسلماً رحمه الله لم يكن بالسياسي المحنك الذي ينظر للمستقبل بحذر، ويزن الأمور بميزان الوقائع السابقة، ويقيس الأحداث القائمة على نظيراتها الماضية، لهذا غرّه تكاثر المبايعين، وبكاؤهم بين يديه ووعودهم الموثقة بنصرة الحسين، فأسرع وكتب إلى الحسين يستقدمه، ويحثه على سرعة الحضور؛ فقد تمهّدت له البيعة والحضور. فالعواطف وحدها لا تكفي في قلب الأنظمة وإزالة الدول، فلا بد من القيادة الراشدة، والتنظيم المحكم، والتخطيط البعيد، وتوثيق الأفراد، والأعداد المعنوي والمادي معاً جنباً إلى جنب، ونستطيع أن نقول بأن ما اعتمد عليه مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة من حسابات كانت خاطئة وغير صحيحة، فقد ظن مسلم بن عقيل أن العاطفة المحركة لكثير من العامة هي السبيل الوحيد للنصر، ولم يأخذ في الاعتبار تأييد زعماء الكوفة أو الاتصال بهم، ولم يحاول مسلم بن عقيل أن ينظم تلك الجموع، وفق اختصاصات معينة تسيطر عليها منظمة سرية تستطيع أن تتحرك في الخفاء وبدون قيود، كما أنه أخفق في توظيف الإمكانات التي توفرت له؛ إذ إن العاطفة المسيطرة على المجتمع الكوفي كفيلة بأن تقلب الأمور لصالحه وذلك بعد إرادة الله، فيما لو استُخدمت وأُرشدت تلك العاطفة إرشاداً صحيحاً مميزاً، ونجد الطرف الآخر النصير وهو هانئ بن عروة والذي يعتبر من أبرز الناس الذين أيدوا مسلماً وناصروه اعتمد على قوة وكثرة قبيلته، وظن أنه بمنأى عن العقاب، وذلك باعتباره زعيماً لمراد التي ذكر المؤرخون أنه كان يركب في أربعة آلاف دارع وثمانية آلاف راجل، وإذا انضاف لهذه القبيلة أحلافها من كندة بلغ العدد ثلاثين ألف دارع، سوى الرجالة، ولكن حسابات هانئ بن عروة كانت خاسرة؛ فالناس قد ضعفت بينهم الروابط القديمة التي تعتبر فيها القبيلة محور الارتكاز، وزعيم القبيلة هو القائد المهيمن الذي ينصاع لأوامره الجميع بدون تردد، وكان لتقسيمات الأرباع في ولاية زياد بن أبيه أثر في هذا الضعف، كما أن نظام العطاء ربط مصالح القبائل بالسلطة الأموية. لقد كانت الحسابات التي ارتكز عليها هانئ والتي اعتمد فيها على القبيلة قد أثبتت خسارتها، وممّا قيل من الشعر في مقتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة:</strong></font></p> <p align="center"><font color="#ff0000" size="3" face="Simplified Arabic"><strong>فإنْ كنتِ لا تدرين مـــا الموتُ فانظري    إلى هانــئ في الــسُّوقِ وابنِ عقـــيلِ<br>أصــابهــمـــا أمــرُ الإمـــامِ فأصــــبحا     أحاديــثَ مَن يسعــى بكـــلِّ ســــبيلِ<br>إلى بــطلٍ قد هَـــشَّم الـــسيفُ وجــــهَهُ    وآخـــر يَهــوِي من طــمــارِ قتــــيلِ<br>تريْ جــسداً قد غـــيَّر الــمــوتُ لـــونَهُ     ونضــْحَ دمٍ قــدْ ســـالَ كــلَّ مَـــسيلٍ<br>فـــإن أنــــتمُ لــــم تــثـــأَروا بأخـــيكــمُ    فـــكــونوا بغـــيا أُرضـــيتْ بقــلــيلِ</strong></font></p> <p align="left"><strong><font color="#0033ff" size="3" face="Simplified Arabic">الإسلام اليوم</font></strong></p> <p><br></p><p><br></p><p><font color="#0000ff"><br></font> </p><div align="center"><a class="btn btn-primary" style="color:#fff;" href="/Article/index/7064"> التالي: الحسين في كربلاء، ومواقف الصحابة والتابعين </a> <a class="btn btn-primary" style="color:#fff;" href="/Article/index/7062"> السابق: خروج الحسين بن علي رضي الله عنه </a></div> <p></p>
التعليقات