حارث عبد الحميد الشوكاني
فهْم الأدلّة الفرعيّة (المتشابهة) المتعلّقة بآل وأهل البيت في ضوء المحكم:
بعد أن أوضحت المعاني المحكمة لمفهوم آل البيت وأهل البيت في القرآن والسّنة الصّحيحة بمنهجيّة تفسير القرآن بالقرآن، وتفسير القرآن بالسّنّة الموافقة لمتون النّصوص القرآنيّة لا المتعارضة معها، عملاً بقوله تعالى: ((مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ)) [آل عمران:7]؛ لأن المنهجيّة الصّحيحة للفهم والاستدلال الذي أشارت إليه الآية السّالفة هو البدء بالمحكم؛ أيْ الأصل (أم الكتاب)، ثمّ المتشابه (الفرع)؛ لأنّ الفرع -كما يقول علماء الأصول- لا يمكن معرفته قبل معرفة أصله، ومن هنا ينشأ التّشابه. سأبدأ بمناقشة الأدلّة الفرعيّة ومتشابهاتها على النّحو التّالي:-
1) حديث الكسا:-
حديث الكسا من أهم وأخطر الأحاديث التي يستشهد بها من يفسّرون الإسلام تفسيرًا عنصريًّا سلاليًّا استكباريًّا (الشّيعة بمختلف مذاهبهم)، وهذا الحديث أربك أيضًا الكثير من علماء السّنة، وهو حديث رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم المرويّ عن عائشة قالت: «خرج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وعليه مرط مرجل من شعر أسود، فجاء الحسن بن عليّ فأدخله، ثم جاء الحسين فدخل معه، ثم جاءت فاطمة فأدخلها، ثم جاء عليّ فأدخله، ثم قال: ((إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)) [الأحزاب:33]».
وفي رواية للتّرمذي روى بسنده إلى عمرو بن أبي سلمة ربيب النّبيّ قال: «لمّا نزلت هذه الآية على النّبيّ ((إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)) [الأحزاب:33] في بيت أم سَلَمة، فدعا فاطمة وحسنًا وحُسينًا، فجلّلهم بكسا وعليّ خلف ظهره، فجلّله بكسا، ثمَّ قال: اللهمّ هؤلاء أهل بيتي فأذهبْ عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيرًا. قالت أمّ سَلَمة: وأنا معهم يا نبيّ الله؟ قال: أنتِ على مكانك، وأنت على خير».
وسأناقش مدلول هذا الحديث على ضوء القواعد المنهجيّة التي أشرت إليها سلفًا من عدّة زوايا:
أ) أقول هذا الحديث (حديث الكسا) ورد في سياق تفسير قوله تعالى في القرآن: ((إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)) [الأحزاب:33]، وبعض علماء أهل السنّة من ذوي المنهجيّة الجزئيّة قَبِلَ هذا الحديث على قاعدة تفسير القرآن بالسّنة، وهذه القاعدة صحيحة، لكن ما ينبغي التنبّه له أنّ المفسّر قد يفسّر القرآن بالسّنة إذا كان نصّ الحديث موافقًا للنصّ القرآنيّ لا معارضًا له، لا سيّما إذا كانت دلالة متن النّصّ القرآنيّ قطعيّة لا ظنّيّة، أما إذا تعارض الحديث مع متن النّصّ القرآنيّ فعندئذ نعمل بالقاعدة الأصوليّة المشار إليها (قاعدة التّعارض والتّرجيح)؛ أيْ عندما يتعارض حديث الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم الظّنّيّ السّند مع النّصّ القرآنيّ القطعيّ السّند والدّلالة، فنحاول التّوفيق بين النّصين المتعارضين ولو استدعى الأمر أن نغلّب المفهوم المرجوح للحديث على المفهوم الرّاجح، فإذا لم نستطع التّوفيق يردّ الحديث؛ لأنّه ليس كلّ حديث صحيح السّند صحيح المتن، كما قرّر ذلك علماء الأصول كالشّاطبي والإمام مالك الذي كان يقدّم عمل أهل المدينة على الحديث الآحادي الظنّي الصّحيح، وكالإمام البخاريّ الذي أورد حديث ردّ عائشة للحديث الصّحيح السّند المرتبك المتن «إنّ الميّت ليُعذّب ببكاء أهله».
والمفسّر المتدبّر للآية المتعلّقة بأهل البيت وتطهيرهم سيجدها خاصّة بنساء النّبيّ نصًّا ومضمونًا، بحيث لا يمكن أن يدرج في مفهوم الآية أيّ رجل لاعتبارات تتعلّق بسياق الآية ومضمونها، ولنتدبّر معنى هذه الآيات في قوله تعالى في سورة الأحزاب ((يَا نِسَاء النّبيّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا * وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا)) [الأحزاب:32-34].
إن المتدبّر لمتن هاتين الآيتين سيدرك بوضوح أنّ الآية وردت في سياق نساء النّبيّ، خاصّة بصريح القرآن والنّداء موجّه لنساء النّبيّ ((يَا نِسَاء النّبيّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء)) ومضمون الآيتين كلّه في سياق نساء النّبيّ: ((فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى)).
وبهذا يتّضح أنّ متن الآيتين القرآنيّتين متعلّق بنساء النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بدلالة قطعيّة يفهمها طالب في الصفّ الثّالث إعدادي فضلاً عن عالم مجتهد، وهذا الرّأي هو المشهور عن ابن عباس، كما جاء في تفسير ابن كثير.
وليس ذلك فحسب بل أستطيع القول بأنّ هذا السّياق القرآنيّ لا يمكن أن يدخل فيه أحد غير نساء النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- بصورة خاصّة، والسّبب أنّه كما يقول علماء الأصول بأنّ الحكم يدور مع العلّة وجودًا وعدمًا.
فسياق الآيتين أوجب على نساء النّبيّ تكاليف وأحكامًا إضافيّة ((لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء))، هذه الأحكام والتّكاليف هي:
- ((فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ)).
- ((وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ)).
- ((وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى)).
ثم أوردت الآية علّة هذه الأحكام والتّكاليف بقوله تعالى: ((إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا))، فعلى هذا الأساس (الحكم يدور مع العلّة) لا يمكن إدخال أحد من الرجال في سياق قوله تعالى: ((إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ)) إلاّ إذا تمّ إسناد تلك الأحكام والتّكاليف إليهم، وهي عدم الخضوع بالقول والقرار في البيت وعدم التّبرّج، وهذا أمر مستحيل؛ لأنّ هذه التّكاليف التي دارت عليها العلّة منوطة بالنّساء لا بالرّجال.
ويتعزّز هذا الفهم بأنّ المقصود بأهل البيت في هذه الآية نساء النّبيّ بقوله تعالى: ((وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ))، فلنتدبّر معًا هذا التّعبير القرآنيّ (بيوتكن) فقد دلّ هذا التّعبير دلالة قاطعة بأنّ أهل البيت هنّ نساء النّبيّ بنسبة بيوت النّبيّ إليهن بدخول نون النّسوة على البيوت.
وبهذا نخلص بأنّ متن هاتين الآيتين قطعيّ الدّلالة بأنّ المقصود بأهل البيت هنا نساء النّبيّ خاصّة.
وفي هذا السّياق يمكننا القول بأنّ حديث الكسا قد عارض وخالف صريح الآيات القرآنيّة في سورة الأحزاب، عندما أخرج الحديث نساء النّبيّ من سياق هذه الآية ((إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا))، مع أنّ ما قبل هذا السّياق وبعده يتحدّث عن نساء النّبيّ على النّحو الذي أوضحته.
ومن هذه الزاوية يمكننا القول بأنّ هذا الحديث وإن صحّ سنده، إلاّ أنّ متنه يعارض القرآن، وقد أوضحت سلفًا بأنّ صحّة السّند لا تستوجب صحّة المتن، وأنّ متن الحديث إذا خالف القرآن حكم عليه بالبطلان، وإن كان صحيح السّند كما قرّر ذلك علماء الحديث، من ذلك ما أكّده الشيخ الألباني المحدّث المعاصر الشّهير في كتابه الآيات البيّنات في عدم سماع الأموات، بأنّ صحّة السّند لا تستوجب صحّة المتن، وأنّ هذه قاعدة مشهورة عند علماء الحديث بقوله: "المقرّر في علم مصطلح الحديث أنّ صحّة الحديث لا يستلزم صحّة المتن لعلّة فيه خفيّة، أو شذوذ من أحد رواته".
وذكر ابن القيّم في كتابه (المنار المنيف في الصّحيح من الضّعيف) أمورًا كليّة يُعرف بها كون الحديث موضوعًا، منها مخالفة الحديث لصريح القرآن.
وما قاله محدّث الديار اليمنيّة الشّيخ مقبل بن هادي الوادعي -رحمه الله-: "كتاب ابن الجوزي من أحسن الكتب، أنصح إخواني في الله بقراءته، وهو مأخوذ من "الأباطيل" للجوزقاني، وابن الجوزي أعلم من صاحب الأباطيل، وصاحب الأباطيل متكلم فيه(1)، لكن ابن الجوزي عالم ومحدّث فله نظران إلى الحديث. أحدهما: أنّه ينظر إلى السّند، ثمّ ينظر إلى المتن، فإذا رأى المتن مباينًا لشرع الله أو رآى فيه شيئًا من النّكارة حكم عليه، ولو كان الحديث ما في سنده كذاب" [الفتاوى الحديثيّة 1\402 ط - دار الآثار].
فيكون حال هذا الحديث كحال الحديث الذي ردّته عائشة -رضي الله عنها- «إنّ الميّت ليُعذّب ببكاء أهله» لمخالفته لصريح القرآن، وبهذا يتّضح صحّة ما حكم به ابن تيميّة على الأحاديث التي يتشبّث بها الشّيعة الرافضة بقوله: "وأمّا سائر الأحاديث التي يتعلّق بها الرّوافض فموضوعة، يعرف ذلك من له أدنى علم بالأخبار ونَقَلتها". [منهاج السّنة [7/320-321].
ب) بعد أن أوضحت تعارض هذا الحديث مع نصّ القرآن المتعلّق بالآية ((إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)) نقول بأنّ هذا الحديث يتعارض مع السّياق المحكم لمفهوم أهل وآل البيت في القرآن، والذي طرقناه من عدّة زوايا على النّحو السّالف.
ج) كما أنّ حديث الكسا يتعارض مع نصّ قرآنيّ متعلّق باللّباس والكسا في قوله تعالى: ((يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ)) [الأعراف:26]، فصريح هذه الآية دلّ على وجود لباس وكسا (طينيّ جسديّ) ((لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا)) ولباس وكسا دينيّ ((وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ)).
وبهذا يتّضح أنّ من يفسّرون القرآن باللّباس والكسا العنصريّ (لباس الجسد والطّين) يعارضون صريح القرآن الذي يؤكّد أن كسا ولباس الدّين والتّقوى هو خير، وهذا تعزيز لمفهوم أهل البيت وآل البيت بمفهوم الدّين لا الطّين بمنطلقاته الإنسانيّة لا العنصريّة الشّيطانيّة.
المصدر: الإٍسلام اليوم.