حارث عبد الحميد الشوكاني
فهم الأدلّة الفرعيّة (المتشابهة) المتعلّقة بآل وأهل البيت في ضوء المحكم:
2) حديث العترة:
قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «وإنّي تارك فيكم الثّقلين أحدهما أكبر من الآخر: كتاب الله وعترتي أهل بيتي» [حديث صحيح - السّلسلة الصّحيحة للألباني].
هذا الحديث أيضًا من الأحاديث التي استغلها الشّيعة في مرويّات أهل السّنة، وفسّروا الإسلام تفسيرًا عنصريًّا بموجبه، ولبيان معنى هذا الحديث أقول: إنّ العالم المُلمّ بالشّريعة الغرّاء مقاصد وكلّيات وجزئيّات، ومحكمات ومتشابهات، وعامًّا وخاصًّا، ومجملاً ومقيّدًا عندما يقف أمام هذا الحديث يجب أن يكون في ذهنه كافّة القواعد المنهجيّة التي أشرنا إليها في بداية البحث، وهو عندما يسبر غور هذا الحديث وفْق تلك القواعد، ويقف أمام حديث للرّسول صلّى الله عليه وآله وسلّم كمثل هذا الحديث، يفترض فيه ألاّ يتوقّف عند دلالة الحديث، ويستنبط منه معنًى يعارض المعاني المحكمة التي سبق إيرادها، بل يعتبر دلالة هذا الحديث الفرعيّ متشابهة، ثم يقوم بعرض هذا الحديث على المحكم من المعاني عملاً بقوله تعالى: ((مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ)) [آل عمران:7].
وقد أشار علماء التّفسير أنّه عندما تبرز دلالة متشابهة فيتوجّب الردّ إلى المحكم؛ أيْ الأصل؛ لأن منشأ الإشكال عند البعض هو النّظرة الجزئيّة للنّصوص، وكأنّ كلّ نصّ موضوع مستقلّ، في حين أنّ المنهجيّة الصّحيحة هو التّفسير الموضوعيّ لكافّة النّصوص المتعلّقة بالموضوع مع التّمييز بين الأصل والفرع في الموضوع الواحد والمحكم والمتشابه، وصدق الله العظيم القائل: ((أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء)) [إبراهيم:24]، فأصل الموضوع كجذر الشّجرة التي يعطيها الثّبات والتّماسك، وفرعها لا يثبت إلاّ إذا كان الأصل ثابتًا، وما أشرنا إليه من محكمات وأصول في هذا الموضوع (نسب الطّين ونسب الدّين - قصّة نوح ومفهوم الأهل في القرآن - مفهوم الآل في القرآن بأنّهم الأتباع - وحدة الأصل البشريّ (قصّة آدم) ....الخ) هي الأصول المحكمة الحاكمة؛ لأنّ القرآن مقدّم في الاعتبار، ويجب أن يُفهم هذا الحديث في ضوئها ما لم يُردّ، والعالم عندما يسير وفق هذه المنهجيّة المحكمة سيسبر غور هذا الحديث كالتّالي:
معنى قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «وإنّي تارك فيكم الثّقلين أحدهما أكبر من الآخر كتاب الله وعترتي أهل بيتي»:
1- على ضوء القواعد المنهجيّة السّالفة اتّضح أنّ القرآن قد فرّق بين نسب الطّين ونسب الدّين، وجعل نسب الدّين فوق نسب الطّين، وبالتّالي استخدم كلّ المفردات اللّغويّة الدّالة على نسب الطّين في سياق نسب الدّين مثل كلمة (أخ) (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)، وكلمة (أب) ((النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ))، (الأمهات): ((وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ))، ((إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ))...الخ، وبالتّالي فالحديث استخدم كلمة عترة ثم فسّر العترة بأنهم أهل البيت «وعترتي أهل بيتي»، وعليه فإنّ معنى العترة وأهل البيت في هذا الحديث هم المؤمنون وليس بني هاشم، وعلى ضوء هذا الفهم تنتفي الإشكاليّة من الحديث، ولا يُفهم فهمًا عنصريًّا سلاليًّا طاغوتيًّا استكباريًّا يقسم النّاس إلى سادة وعبيد؛ لأن هذا الفهم يضرب مقاصد الإسلام وكلّيّاته.
2- وعلى ضوء هذا الفهم سيكون معنى الحديث هو الإشارة إلى الإجماع أو الشّورى لقول الرّسول صلّى الله عليه وآله وسلّم: «لا تجمع أمّتي على ضلالة».
3- وإذا أدركنا أنّ هناك روايتين: رواية تقول: «كتاب الله وسنّتي» ورواية تقول: «كتاب الله وعترتي»، فستكون دلالة الحديثين هي الإشارة إلى مصادر التّشريع المعروفة في كتب الأصول (القرآن - السّنة - الإجماع أو الشّورى)، وبهذا الفهم لا نجد أيّ إشكاليّة في فهم الحديث.
4- ويتعزّز هذا الفهم لمعنى الثّقلين في الحديث والعترة أهل البيت بأنّهما (وحي السماء كتابًا وسنة) (والإجماع والشّورى) بما ورد في القرآن من تأكيد بأنّ مدار أمر المسلمين يقوم على أصلين هما:
أ- الشّريعة الإسلاميّة (قرآن وسنّة)
ب- الشّورى.
أما الدّليل بأن الشّريعة هي الأصل الأول، والثّقل الأول الذي يقوم عليه أمر المسلمين قوله تعالى: ((ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ)) [الجاثية:18]، فصريح هذه الآية قد اعتبر الشّريعة هي مدار الأمر الواجبة الاتّباع.
وأمّا الدّليل القرآنيّ الذي اعتبر الشّورى الأصل الثّاني والثّقل الثّاني الذي يدور عليه أمر المسلمين، هو قوله تعالى: ((وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ))، فالنّصّ القرآنيّ هنا صريح الدّلالة أنّ أمر المسلمين من بعد الشّريعة يعود إلى الشّورى.
إذًا فالثّقلان كتاب الله والعترة هما (الشّريعة - والشّورى).
5- لو افترضنا أنّ المقصود بالحديث هنا (أهل البيت والعترة) بني هاشم لتصادم هذا الفهم مع كافّة المعاني المحكمة التي أشرت إليها سلفًا، وحكم هذا التّعارض إذا لم نجد لهذا الحديث تأويلاً ينسجم مع المعاني المحكمة الواردة في هذا السّياق هو ردّ الحديث على قاعدة عرض الحديث على القرآن لقوله تعالى: ((وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا)) [النساء:82]، فهذه الآية قرّرت توافق وحي السماء كتابًا وسنّة، وجعلت من اختلاف النّصوص والتّعارض دلالة على أنّها من عند غير الله، وعلى ضوء هذا الدّليل أقول لأهل السّنة الذين ضعّفوا حديث ردّ السّنة إلى القرآن بأنّ هذه آية لردّ السّنة إلى القرآن، وليس حديثًا، ولأنّ القرآن قطعيّ سندًا، والسّنة ظنّيّة، فيجب عرضها على القرآن، فإذا اختلفت مع القرآن، وتعارضت أدركنا أنّ هذا الحديث من عند غير الله ورسوله؛ أي حديث موضوع، وإن كان سنده صحيحًا.
6- كما أنّنا لو افترضنا أنّ المقصود بالعترة بنو هاشم فإلى جوار مصادمة هذا الفهم للمعاني المحكمة القرآنيّة الواردة بهذا الصّدد على النّحو الذي أسلفت، فإنّنا من زاوية أخرى إذا افترضنا أنّ المقصود بنو هاشم من العترة والآل فسنجد أنفسنا في إشكاليّة في تطبيق هذا الفهم في الواقع؛ لأنّ بني هاشم منهم المؤمن والكافر، ومنهم السّنيّ والشّيعيّ، وهم موزّعون بين السّنة شوافع وحنابلة وأحنافًا ومالكيّة، وموزّعون بين الشّيعة زيديّة وإثنا عشرية وإسماعيلية وبهائيّة... إلخ، وهنا سيبرز السّؤال: من المقصود ببني هاشم؟ السّنة أم الشّيعة؟ وإذا كانوا في السّنة فأيّ مذهب؟ وإن كانوا في الشّيعة فأيّ مذهب؟ وبهذا نخلص أنّه يستحيل تطبيق الفهم العنصريّ لهذا الحديث في الواقع.
3) قوله تعالى: (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)):
نقول ابتداء يجب أن لا نفهم هذه الآية المتشابهة إلاّ في ضوء المعاني المحكمة القرآنيّة السّالفة الذكر، عملاً بقاعدة ردّ المتشابه إلى المحكم.
وعلى هذا الأساس فالقرابة هنا تُحمل على قرابة الدّين وليس على قرابة الطّين، ويتعزّز هذا الفهم بمنهجيّة تفسير القرآن بالقرآن، بقوله تعالى: ((لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)) [المجادلة:22]، فصريح هذه الآية نفى المودّة عن الأقارب طينًا أبًا وابنًا وأخوة وعشيرةً، وأثبتها دينًا ((أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ)).
فهذه دلالة قطعيّة قرآنيّة على أنّ المودّة لا تكون لقرابة الطّين، وإنّما لقرابة الدّين.
الخلاصة:
من هم آل البيت في المنظور القرآنيّ
1- أهل البيت وآل البيت في المنظور القرآنيّ هم المنتسبون إلى الرّسول محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم) دينًا (المؤمنون)، وليس المنتسبون للرّسول صلّى الله عليه وآله وسلّم طينًا (بني هاشم)؛ لأن بيت النّبوة هو بيت الدّين وليس بيت الطّين.
2- وقوام هذا البيت هم المؤمنون لقوله تعالى: ((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)) [الحجرات:10].
3- وهؤلاء المؤمنون أمّهاتهم نساء النّبيّ لقوله تعالى: ((وأزواجه أمّهاتهم)) [الأحزاب:6]، والنّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، أبو المؤمنين أبوّة دين لا أبوّة طين.
4- كما أنّ البيت قد تمّ تجسيده (بالكعبة) والطّائفون حوله من المؤمنين هم آل هذا البيت وأهله وأولياؤه، وصدق الله العظيم القائل: ((وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ)) [الأنفال:34]، والقائل: ((وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)) [البقرة:125].
5- وأخطر فتنة قام بها التّأويل المجوسيّ للإسلام، وقاتل عليها قتال لسان لا قتال سنان- هي فتنة إخراج المؤمنين أهل بيت الله الحرام عن معنى أهل البيت بحصره في أهله نسبًا وطينًا، لا أهله إيمانًا ودينًا، بدليل هذه الآية، والتي إن كان لها سبب نزول إلاّ أنّ العبرة بعموم اللّفظ لا بخصوص السّبب كما يقول علماء الأصول، ((يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)) [البقرة:217].
المصدر: الإسلام اليوم.