<p dir="rtl" style="text-align: center;">
<img alt="التحكيم بين علي ومعاوية رضى الله عنهما" src="http://alburhan.com/upload/userfiles/images/%D8%A7%D8%AA%D8%AD%D9%83%D9%8A%D9%85.jpg" style="width: 400px; height: 250px;" /></p>
<p dir="rtl" style="text-align: center;">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt"><font color="red" face="Simplified Arabic" size="4"><b>التحكيم بين علي ومعاوية رضى الله عنهما</b></font></font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt"><b><font color="blue" face="Simplified Arabic" size="4">مقدمة:</font></b></font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">بعد معركة صفين، والتي راح ضحيتها الكثير من القتلى والشهداء، والذين بلغ عددهم سبعين ألفًا من المسلمين على يد إخوانهم من المسلمين، وجد الصحابي الجليل سهل بن حنيف رضي الله عنه وأرضاه وهو أحد صحابة النبي صلى الله عليه وسلم وجد أن في قلوب بعض الناس شيئًا من القتال الذي حدث بينهم، فبعض الناس مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ورغم قناعتهم بكونه أمير المؤمنين، وتجب البيعة له والطاعة التامة إلا أن في قلوبهم وأنفسهم حرج من قتلهم لإخوانهم من المسلمين، وكذلك من كان مع معاوية رضي الله عنه، فقال لهم سهل بن حنيف رضي الله عنه كلامًا في غاية الأهمية وينبغي أن ينتفع به المسلمون إلى يوم القيامة قال لهم: "يا أيها الناس اتّهموا الرأي على الدين".</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">فهو يقصد أن بعض الناس ربما يكون لهم من الرأي ما يخالف الشرع، وتظن أن هذا الرأي هو الصائب، وهو السليم، ويحاول أهل الشرع إقناعهم بالرأي السليم، لكنهم لا يقتنعون بسهولة، أو ربما لا يقتنعون مطلقًا، يقول: فلقد رأيتُني يوم أبي جندل.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">يقصد رضي الله عنه يوم الحديبية، حين عقد الرسول صلى الله عليه وسلم الصلح مع كفار مكة، وكان من بنود هذا الصلح: أن من أتى من قريش، أو مِن مَن حالفهم مسلمًا ردّه المسلمون إلى قومه، ومَن أتى من المسلمين إلى قريش مرتدًا لا يردّوه إلى قومه، بل يقبلوه بينهم. فكان هذا شرطًا جائرًا في نظر أغلب الصحابة؛ إذ كيف يعطون الدنية في دينهم، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان الكثير منهم يعتقد أن الصواب في غير ذلك، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان متمسكًا بهذا الأمر، وكان هذا وحيًا من الله تعالى له صلى الله عليه وسلم، واضطر المسلمون - مع عدم قناعتهم بهذا الرأي في قبول هذا الشرط المجحف - إلى الطاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والقبول بما رضي به صلى الله عليه وسلم.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">واشتد على المسلمين يوم آخر، والذي يسميه سهل بن حنيف رضي الله عنه يوم أبي جندل، فبعد أن عُقد الصلح وتمّ، وكان الذي باشر عقد هذا الصلح من طرف المشركين حينئذٍ سهيل بن عمرو، والذي أسلم بعد ذلك، فجاء أحد المشركين، وأراد أن يدخل في الإسلام، وكان اسمه أبا جندل، وهو ابن سهيل بن عمرو، فقال سهيل بن عمرو: "هذا أول ما نبدأ به، ردّوه علينا".</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">فأعاده الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن أعلن إسلامه إلى الكفار، فقال أبو جندل: "يا رسول الله تردني إليهم يفتنوني في ديني"؟!</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">وكان هذا الأمر صعبًا على المسلمين جميعًا من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخذ سيفه، وأعطاه لأبي جندل وقال له: إنما أنت رجل وهو رجل، يحرّضه على قتل أبيه.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">ومع هذا كله كانت تلك الشروط، وهذه الأمور سببًا للفتح العظيم للمسلمين، فبعد صلح الحديبية بعام واحد دخل في الإسلام أعداد كبيرة كانت ضعف العدد الذي دخل في الإسلام قبل ذلك، وتضاعفت أعداد المسلمين بعد ذلك.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">فيقول سهل بن حنيف رضي الله عنه: "يا أيها الناس! اتّهموا الرأي على الدين، فلقد رأيتُني يوم أبي جندل، ولو أقدر لرددت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمره، ووالله ما حملنا سيوفنا على عواتقنا منذ أسلمنا لأمر يقطعنا إلا أسهل بنا إلى أمرٍ نعرفه، غير أمرنا هذا فإننا لا نسد منه خصمًا، إلا انفتح لنا غيره لا ندري كيف نبالي له".</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">فهذا سهل بن حنيف رضي الله عنه مع كل هذا التاريخ العظيم في الإسلام يخبر رضي الله عنه أنه منذ أسلم ما رفع سيفه لقتال إلا أوضح الله له أين الحق إلا هذا الأمر، فلم يتبين فيه الحق بوضوح، وكلٌّ يجتهد حسب ما يرى من الأمور، فكانت فتنة النائم فيها خير من اليقظان، واليقظان فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الساعي، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">وهذا عمار بن ياسر رضي الله عنه سُئل يوم صفين عن القتال: أهذا عهدٌ عهده رسول الله إليكم أم هو الرأي؟ فقال رضي الله عنه: لم يعهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا هذا. وأشار إلى القرآن.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">فالقضية كلها تدخل في مجال الاجتهاد، فمن الصحابة رضي الله عنهم جميعًا من اجتهد فأصاب، فله أجران كعلي بن أبي طالب رضي الله عنه ومن معه، ومنهم من اجتهد فأخطأ كمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه ومن معه.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">وهؤلاء الصحابة رضوان الله عليهم جميعًا، قد توفي الرسول صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt"><font color="blue" face="Simplified Arabic" size="4"><b>التحكيم:</b></font></font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">خشي عدد من عقلاء الطرفين من استمرار القتال حتى لا يهلك المسلمون، فيستغل الأعداء ذلك، ويستأصلوا الإسلام، فلا تقوم له بعد ذلك قَوْمة، وكان عقلاء الكوفة أسبق إلى الموادعة؛ فهذا الأشعث بن قيس الكندي لمَّا اشتد القتال يخطب في قومه أهل الكوفة في المساء خطبته التي قادت للصلح؛ فيقول:</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">"قد رأيتم يا معشر المسلمين ما قد كان في يومكم هذا الماضي، وما قد فني فيه من العرب، فوالله لقد بلغت من السن ما شاء الله أن أبلغ فما رأيت مثل هذا اليوم قَطُّ.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">ألا فليبلغ الشاهد الغائب: أنَّا إنْ نحن تواقفنا غدًا إنه لفناء العرب وضيعة الحرمات.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">أما والله ما أقول هذه المقالة جزعًا من الحتف، ولكني رجل مسنّ أخاف على النساء والذراري غدًا إذا فنينا.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">اللهم إنك تعلم أنى قد نظرت لقومي ولأهل ديني فلم آلُ، وما توفيقي إلا بالله".</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">فلما وصل الخبر معاوية بخطبة الأشعث فقال: أصاب ورب الكعبة، لئن نحن التقينا غدًا لتميلن الروم على ذرارينا ونسائنا، ولتميلنَّ أهل فارس على نساء أهل العراق وذراريهم، وإنما يبصر هذا ذوو الأحلام والنُّهى؛ اربطوا المصاحف على أطراف القَنَا.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">قال صعصعة: فثار أهل الشام فنادوا في سواد الليل: يا أهل العراق، مَن لذرارينا إن قتلتمونا، ومن لذراريكم إن قتلناكم؟ اللهَ الله في البقية.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">فأصبح أهل الشام وقد رفعوا المصاحف على رءوس الرماح وقلدوها الخيل، والناس على الرايات قد اشتهوا ما دعوا إليه، ورفع مصحف دمشق الأعظم تحمله عشرة رجال على رءوس الرماح، ونادوا: يا أهل العراق، كتاب الله بيننا وبينكم.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">وأقبل أبو الأعور السلمي على برذون أبيض وقد وضع المصحف على رأسه ينادي: يا أهل العراق، كتاب الله بيننا وبينكم.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">فقال الأشعث لأمير المؤمنين: أجب القوم إلى كتاب الله؛ فإنك أحق به منهم، وقد أحب الناس البقاء وكرهوا القتال.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">فقال عليٌّ رضى الله عنه: إن هذا أمر ينظر فيه.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">وذكروا أن أهل الشام جزعوا فقالوا: يا معاوية، ما نرى أهل العراق أجابوا إلى ما دعوناهم إليه، فأعدها جذعة، فإنك قد غمرت بدعائك القوم وأطمعتهم فيك.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">فدعا معاوية عبد الله بن عمرو بن العاص، وأمره أن يكلم أهل العراق؛ فأقبل حتى إذا كان بين الصفين نادى: يا أهل العراق، أنا عبد الله بن عمرو بن العاص، إنها قد كانت بيننا وبينكم أمور للدين والدنيا، فإن تكن للدين فقد والله أعذرنا وأعذرتم، وإن تكن للدنيا فقد والله أسرفنا وأسرفتم، وقد دعوناكم إلى أمرٍ لو دعوتمونا إليه لأجبناكم، فإن يجمعنا وإياكم الرضا فذلك من الله؛ فاغتنموا هذه الفرجة.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">وأمَّا الأشتر، فلم يكن يرى إلا الحرب؛ لأنه من أهل الفتنة، ولكنه سكت على مضضٍ، وذكروا أن الناس ماجوا وقالوا: أكلتنا الحرب، وقتلت الرجال، وثارت الجماعة بالموادعة<font size="3"><sup>(1)</sup></font>.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt"><b>إذن</b> لا يَصِحُّ شيء مما ادَّعاه أهل الفتنة كذبًا من أن رفع المصاحف هو مكيدة من الصحابي الجليل عمرو بن العاص رضى الله عنه، أشار بها على معاوية رضى الله عنه ليتفاديا انتصار جيش علي رضى الله عنه، ومن ثَمَّ أوسعا الصحابييْن الجليليْن سبًّا وقذفًا شنيعًا لا يرضاه الله سبحانه وتعالى.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">لقد كان رفع المصاحف - في الحقيقة- عملاً رائعًا اشترك فيه العقلاء من الفريقين، وتُوِّج بموافقة أمير المؤمنين علي رضى الله عنه؛ إذ قال: "نعم .. بيننا وبينكم كتاب الله، أنا أولى به منكم"<font size="3"><sup>(2)</sup></font>.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">وقد افترى الرواة الشيعة الكذَّابون، واختلقوا الكثير من الروايات الموضوعة لأهدافهم الخبيثة من طعن الصحابة رضوان الله عليهم، وتشويه الدين؛ فقد وضعوا روايات تُضَخِّم من عدد قتلى صفين، كما فعلوا في الجمل، وللأسف اهتم المؤرخون القدماء بجمع هذه الروايات حتى كادت الروايات الحقيقية تضيع وسط هذا الركام؛ فهذا الطبري شيخ المؤرخين رحمه الله يذكر حول صفين ما يقارب 107 رواية تصف أحداثها من البدء إلى النهاية، ويروي فيها للشيعي الكاذب أبي مخنف لوط بن أبي يحيى المتجرئ على الصحابة خمسًا وتسعين رواية<font size="3"><sup>(3)</sup></font>.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">وتم الاتفاق على التحكيم وبدأ كل فريق يختار من يخرج لهذ المهمة، ولم يكن في جيش معاوية رضي الله عنه أي اختلاف على من يتولّى أمر التحكيم، فاختاروا عمرو بن العاص رضي الله عنه، والذي كان بمثابة الوزير الأول لمعاوية رضي الله عنه في كل هذه الأحداث، وكان عمره رضي الله عنه في هذا التوقيت سبعة وثمانين سنة، فكان شيخًا كبيرًا من شيوخ صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو رضي الله عنه إن كان قد اشتهر بشدة الذكاء والحيلة فقد اشتهر أيضًا بالورع والتقوى، وكان رضي الله عنه كثير المحاسبة لنفسه، وهذا الأمر يخفيه الكثير من الكتاب المغرضين، ويظهرون عمرو بن العاص رضي الله عنه في صورة صاحب المكر، والخداع، والدهاء، ويكفيه فخرًا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عنه: <font color="green" face="Simplified Arabic" size="4"><b>«أَسْلَمَ النَّاسُ وَآمَنَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ»</b></font><font size="3"><sup>(4)</sup></font>، وفي الحديث الصحيح أيضًا: <font color="green" face="Simplified Arabic" size="4"><b>«عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ مِنْ صَالِحِي قُرَيْشٍ»</b></font><font size="3"><sup>(5)</sup></font>.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">أما جيش علي بن أبي طالب رضي الله عنه فلما عُرض عليهم أن يخرج للتحكيم عبد الله بن عباس رفض القوم، وطالبوا بأن يخرج عنهم أبو موسى الأشعري، وذلك لأنه رفض الدخول في القتال من بداية الأمر مع يقينه أن عليًا رضي الله عنه على الاجتهاد، وكان رضي الله عنه قاضيًا للكوفة، واعتزل القتال، ولم يكرهه علي بن أبي طالب رضي الله عنه على الخروج معه، وكان أبو موسي رضي الله عنه رجلًا تقيًا ورعًا فقيهًا عالمًا، وقد أرسله الرسول صلى الله عليه وسلم إلى اليمن مع معاذ بن جبل رضي الله عنهم جميعًا لتعليم الناس أمور الإسلام، وكان مقربًا عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وولّاه أمر البصرة، وكان هذا أمرًا عظيمًا، ذلك لأن البصرة كانت تدير عمليات الفتوح في جنوب ووسط فارس، وظل رضي الله عنه فيها فترة كبيرة، وكان رضي الله عنه قائدًا لمعركة (تستر) الشهيرة التي حوصرت سنة ونصف، فهو رجل فقيه عالم قاض محنّك، غير ما أُشيع في الكتب من سذاجة، وبساطة، وسوء رأي نُسبَ إليه ليلصقوا به ما زعموه من كذب وزور في قضية التحكيم، وهو من هذا كله براء.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">وتولّى رضي الله عنه في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه ولاية الكوفة فترة طويلة، وكذلك في عهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">ذهب إليه القوم في قريته التي كان معتزلًا فيه وقالوا له: إن الناس قد اصطلحوا.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">فقال: الحمد لله.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">فقالوا له: وقد جُعلت حكمًا.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">وذلك لأن هذا الأمر أمر صعب، وشاق عسير أن يحكم بين طائفتين اقتتلا هذا القتال الشديد فترة كبيرة، ووافق رضي الله عنه على الذهاب معهم، حتى يتم التحكيم في هذه القضية الشائكة.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">والتقى أبو موسى الأشعري، وعمرو بن العاص رضي الله عنهما في مكان (صفين)، وبدآ يفكران في كيفية إيجاد حلٍ لهذه المعضلة التي ألمّت بالمسلمين، فاتفقا ابتداءً على كتابة كتابٍ مبدئي يضع أسس التحكيم، ولن يكون هو الكتاب النهائي.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">فبدأ أبو موسى يملِى الكتاب وعمرو بن العاص يسمع:</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">بسم الله الرحمن الرحيم</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">هذا ما قاضى عليه علي بن أبي طالب أمير المؤمنين.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">فقاطعه عمرو بن العاص قائلًا: اكتب اسمه، واسم أبيه، هو أميركم، وليس بأميرنا.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">فقال الأحنف بن قيس: لا نكتب إلا أمير المؤمنين.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">فذهبوا إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وذكروا ذلك له، فقال رضي الله عنه: امح أمير المؤمنين، واكتب: هذا ما قاضى عليه علي بن أبي طالب.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">وعمرو بن العاص رضي الله عنه باجتهاده مقتنع بعدم ولاية علي بن أبي طالب رضي الله عنه للمؤمنين، وإلا ما قاتله، وكان ذلك خروجًا منه على طاعته، ولكن لم يبايعه، وكذلك أهل الشام، وفي اجتهاده أنه ليس أميرًا للمؤمنين.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">وقبل علي بن أبي طالب رضي الله عنه بهذا الأمر؛ حرصًا على جمع الكلمة، ووحدة الصف، وسعة صدرٍ منه رضي الله عنه وأرضاه.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">فكتبوا: هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان أننا نزل عند حكم الله، وكتابه، ونحيي ما أحيا الله، ونميت ما أمات الله، فما وجد الحكمان في كتاب الله عملا به، وما لم يجدا في كتاب الله، فالسنة العادلة الجامعة غير المتفرقة.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">ثم ذهب كل من الحكمين إلى كل فريق على حدة، وأخذا منهما العهود والمواثيق أنهما أي الحكمان آمنان على أنفسهما، وعلى أهليهما، وأن الأمة كلها عونٌ لهما على ما يريان، وأن على الجميع أن يطيع على ما في هذه الصحيفة.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">فأعطاهم القوم العهود والمواثيق على ذلك، فجلسا سويًا، واتفقا على أنهما يجلسان للحكم في رمضان من نفس العام، وكان حينئذ في شهر صفر سنة 37 هـ، وذلك حتى تهدأ نفوس الفريقين ويستطيع كل فريق أن يتقبل الحكم أيًا كان.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">وشهد هذا الاجتماع عشرة من كل فريق، وممن شهد هذا الاجتماع عبد الله بن عباس، وأبو الأعور السلمي، وحبيب بن مسلمة، وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">وخرج الأشعث بن قيس، والأحنف بن قيس رضي الله عنهما، وهما من فريق علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقرأ الأشعث بن قيس الكتاب على الفريقين، فوافق الجميع على هذا الأمر، وبدءوا في دفن الشهداء، والقتلى.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">ويقول الزهري: كان يُدفن في كل قبر خمسون نفسًا لكثرة عدد القتلى والشهداء.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">وبعد ذك بدأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه يتوجه بجيشه إلى الكوفة، وكان في يده بعض الأسرى من الشاميين فأطلقهم، وكذلك فعل معاوية رضي الله عنه وأرضاه حيث كان في يده بعض الأسرى من العراقيين فأطلقهم، وعاد كلٌّ إلى بلده.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt"><font color="blue" face="Simplified Arabic" size="4"><b>تحكيم الرجال في دين الله:</b></font></font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">كان الأشعث بن قيس رضي الله عنه عندما قرأ الكتاب على جيش علي بن أبي طالب رضي الله عنه مرّ على فريق من بني تميم، وبعد أن قرأ الكتاب خرج له رجل يُسمّى عروة بن جرير من بني ربيعة من تميم، وقال للأشعث بن قيس رضي الله عنه: أتحكمون في دين الله الرجال؟!</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">فكان هذا الرجل يرى أن حكم الله واضح تمام الوضوح وأنه يجب أن يُقاتل فريق معاوية رضي الله عنه حتى النهاية، ويستنكر تحكيم عمرو بن العاص وأبي موسى الأشعري في أمرٍ واضح كهذا، ثم ضرب بسيفه عجز دابة الأشعث بن قيس، فغضب الأشعث بن قيس رضي الله عنه من هذا التصرف، وكاد أن يحدث الشقاق والخلاف، لولا أن تدخل الأحنف بن قيس وكبار القوم وأنهوا الأمر.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">ومرّ الموقف في تلك اللحظة، لكن طائفة من جيش علي بن أبي طالب رضي الله عنه أخذت هذه الكلمة، وبدأت تتحدث بها وظنّتها صوابًا، وكان الكثير ممن ردد هذا الأمر من حفاظ القرآن الكريم، وشديدي الورع والتقوى، وممن يكثرون الصلاة بالليل والنوافل، فأخذوا هذه الكلمة وقالوا: أتحكمون في دين الله الرجال؟ وغضبوا لأمر التحكيم وقالوا: لا حكم إلا لله.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">واستمرّ مسير علي بن أبي طالب رضي الله عنه، حتى وصل الكوفة، فسمع رجلًا يقول: ذهب علي ورجع في غير شيء. وفي هذا لوم له رضي الله عنه على أمر التحكيم.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">فقال علي رضي الله عنه: لَلَذين فارقناهم خير من هؤلاء، ثم أنشأ يقول:</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">أَخُوكَ الَّذِي إِنْ أَحْرَجَتْكَ مُلِمَّةٌ *** مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَبْرَحْ لِبَثِّكَ رَاحِمًا</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">وَلَيْسَ أَخُوكَ بِالَّذِي إِنْ تَشَعَبَتْ *** عَلَيْكَ أُمُورٌ ظَلَّ يَلْحَاكَ لَائِمًا</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt"><font color="blue" face="Simplified Arabic" size="4"><b>كلمة حق أريد بها باطل:</b></font></font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">عند وصول علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى الكوفة، كان عدد من يقول بهذه الكلمة: (لا نحكّم الرجال في دين الله، ولا حكم إلا لله)، وصل عددهم إلى اثني عشر ألف رجل، فكان شيئًا صعبًا عليه رضي الله عنه.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">وكان من بين هذا العدد ثمانية آلاف يحفظون القرآن، وهؤلاء الحفظة كانوا طائفة في جيش علي بن أبي طالب رضي الله عنه يُقال لهم: القرّاء؛ لأنهم كانوا يكثرون من قراءة القرآن الكريم، ومن القيام والصيام، وكان أكثر من خرجوا مع هذه الطائفة من قرية تُسمّى (حروراء) وهم الذين عُرفوا في التاريخ بعد ذلك باسم الخوارج؛ لأنهم خرجوا عن طاعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، وقد تنبّأ بهذه الطائفة الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم، وهذا من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم، فعند الإمام مسلم بسنده عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: <font color="green" face="Simplified Arabic" size="4"><b>«تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عِنْدَ فُرْقَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَقْتُلُهَا أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ»</b></font>.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">وعند البخاري بسنده عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه،ُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: <font color="green" face="Simplified Arabic" size="4"><b>«يَخْرُجُ نَاسٌ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ، وَيَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ، ثُمَّ لَا يَعُودُونَ فِيهِ حَتَّى يَعُودَ السَّهْمُ إِلَى فُوقِهِ. قِيلَ: مَا سِيمَاهُمْ؟ قَالَ: "سِيمَاهُمْ التَّحْلِيقُ"، أَوْ قَالَ: "التَّسْبِيد»</b></font>.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">وفي البخاري ومسلم قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا، فَوَاللَّهِ لَأَنْ أَخِرَّ مِنْ السَّمَاءِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَكْذِبَ عَلَيْهِ، وَإِذَا حَدَّثْتُكُمْ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ فَإِنَّ الْحَرْبَ خِدْعَةٌ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: <font color="green" face="Simplified Arabic" size="4"><b>«سَيَخْرُجُ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ أَحْدَاثُ الْأَسْنَانِ سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ، يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ، لَا يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ، فَاقْتُلُوهُمْ، فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة»</b></font>. والأحاديث في شأنهم كثيرة.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">بعد ذلك ذهب إليهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه ليحاورهم، ويجادلهم، ويردّهم بالتي هي أحسن، فقال لهم: ماذا تأخذون علينا؟</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">فقالوا: انسلخت من اسم سماك الله به - يقصدون اسم أمير المؤمنين - ثم انطلقت، فحكّمت الرجال في دين الله، ولا حكم إلا لله.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">بداية اسم أمير المؤمنين هذا لم يسمّه الله تعالى به، وكان أول من سُمّي بهذا الاسم هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فكان اعتراضهم أنه قَبِل أن يُقال من علي بن أبي طالب في أثناء كتابة صحيفة التحكيم، دون ذكر أمير المؤمنين، واعتراضهم الثاني على قبوله تحكيم الرجال في أمر الله تعالى، وأنه كان يجب أن يستمرّ القتال؛ لأن هذا هو أمر الله، ولا يصح على الإطلاق أن يقف القتال بناءً على رأي الحكمين.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لا يدخل علي إلا من حمل القرآن.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">فدخل عليه ثمانية آلاف، فأمسك بالمصحف، وأخذ يهزّه، فقالوا له: ماذا تفعل؟</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">فقال: إني أسأله.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">فقالوا له: إنما هو مداد في ورق.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">وعلي رضي الله عنه يشير بهذا الفعل إلى أن القرآن لن يقوم بذاته في فعل الأمور، ويقرر الأحكام، وينفذها، بل يقوم بذلك رجال قرأوا القرآن، واستوعبوه جيدًا، وبنوا آرائهم على حكمه.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">وقال لهم علي رضي الله عنه: قال الله تعالى في كتابه في امرأة ورجل: <font color="blue" face="Simplified Arabic" size="4"><b>﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا﴾</b></font> <font face="Simplified Arabic" size="3">[النساء:35]</font>.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">ثم قال لهم رضي الله عنه: فأمة محمد صلى الله عليه وسلم أعظم من رجل وامرأة.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">ثم قال لهم: أتنقمون عَلَيَّ أن محوت أمير المؤمنين، وكتبت علي بن أبي طالب، فإنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاءنا سهيل بن عمرو حين صالح قومه قريشًا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: <font color="green" face="Simplified Arabic" size="4"><b>«اكْتُبْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم»</b></font>.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">فقال سهيل: أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو، ولكن اكتب باسمك اللهم كما كنت تكتب.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا باسم الله الرحمن الرحيم.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">فقال النبي صلى الله عليه وسلم: <font color="green" face="Simplified Arabic" size="4"><b>«اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ»</b></font>.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">ثم قال: <font color="green" face="Simplified Arabic" size="4"><b>«هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ»</b></font>.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك، ولكن اكتب: محمد بن عبد الله.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: <font color="green" face="Simplified Arabic" size="4"><b>«وَاللَّهِ إِنِّي لَرَسُولُ اللَّهِ، وَإِنْ كَذَّبْتُمُونِي، اكْتُبْ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ»</b></font>.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">فقد رأى الرسول صلى الله عليه وسلم أن الأنسب في هذا الوقت أن يتم الصلح، وإذا لم يتم الصلح إلا بهذا الأمر فلا بأس، وكذلك فعل علي بن أبي طالب رضي الله عنه.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">ثم قال علي رضي الله عنه: ويقول الله تعالى في كتابه: <font color="blue" face="Simplified Arabic" size="4"><b>﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا﴾</b></font> <font face="Simplified Arabic" size="3">[الأحزاب:21]</font>.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">ومع هذا كله لم يرتدع القوم، ولم يرتدوا عما هم عليه، فأرسل لهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه حبرَ الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، والذي دعا له النبي صلى الله عليه وسلم: <font color="green" face="Simplified Arabic" size="4"><b>«اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ»</b></font>، ومن علماء المسلمين، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يستشيره في الملمات، وهي الأمور الصعبة العسيرة.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">وذهب رضي الله عنه إلى القوم ليحاجهم، فلما دخل عليهم، وكان يرتدي حُلّة جديدة، فناظروه فيها، وقالوا له: ترتدي حلة عظيمة وجديدة؟!</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">فقال لهم: <font color="blue" face="Simplified Arabic" size="4"><b>﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾</b></font> <font face="Simplified Arabic" size="3">[الأعراف:32]</font>.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">فقام رجل منهم يُسمّى ابن الكوى، وهو متحدث فصيح، وقال: يا حملة القرآن، هذا عبد الله بن عباس، فمن لم يكن يعرفه فأنا أعرفه؛ هو ممن يخاصم في كتاب الله بما لا يعرف، وهو ممن نزل فيه، وفي قومه قوله تعالى: <font color="blue" face="Simplified Arabic" size="4"><b>﴿بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ﴾</b></font> <font face="Simplified Arabic" size="3">[الزُّخرف:58]</font>، فرُدّوهُ إلى صاحبكم، ولا تواضعوه كتاب الله.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">فقال بعضهم: والله لنواضعنه، فإن جاء بحقٍ نعرفه تبعناه، وإن جاء بباطل لنكبتنّه بباطله.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">فمكث فيهم عبد الله بن عباس رضي الله عنه وأرضاه ثلاثة أيام، يجادلهم ويجادلونه، ويحاورهم ويحاورنه. وبعد جدال وحوار طويل وعميق قالوا: إنهم يأخذون على علي بن أبي طالب ثلاث نقاط.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">1-أنه محا اسمه من الإمرة.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">2- أنه حكّم الرجال في كتاب الله.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">3- أنه يوم الجمل بعد أن استحلّ الأنفس، ورفض أن يوزع السبي والأموال.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">أجاب عبد الله بن عباس رضي الله عنه عن الأولى بما أجاب علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأجاب عن الثانية، وهي قولهم أنه حكّم الرجال في كتاب الله بآيتين من القرآن، وقال لهم: إن ذلك في القرآن.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">فقالوا: وأين هو؟</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">قال الآية الأولى التي استشهد بها الإمام علي رضي الله عنه: <font color="blue" face="Simplified Arabic" size="4"><b>﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا﴾</b></font> <font face="Simplified Arabic" size="3">[النساء:35]</font>.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">والآية الثانية قول الله تعالى: <font color="blue" face="Simplified Arabic" size="4"><b>﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ﴾</b></font> <font face="Simplified Arabic" size="3">[المائدة:95]</font>.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">فلم يقرر الله عز وجل المقدار الذي يضحي به الرجل نظير قتله للصيد، وهو حُرُم، ولكنه ترك الأمر ليحكم به ذوو العدل من المسلمين، ويقررون الحكم لهذا الرجل.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">وأجاب رضي الله عن النقطة الثالثة وهي قضية: أنه يوم الجمل بعد أن استحلّ الأنفس رفض أن يوزع السبي والأموال.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">فقال عبد الله بن عباس رضي الله عنه مجاراةً لهم: قد كان من السبي أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها وأرضاها، فإن قلتم أنها ليست بأم لكم فقد كفرتم، وإن استحللتم سبي أمهاتكم فقد كفرتم.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">فلما دار هذا الحوار بين عبد الله بن عباس رضي الله عنه وبينهم على مدار ثلاثة أيام، رجع منهم أربعة آلاف، وتابوا على يديه، وكان منهم ابن الكوى هذا الرجل الذي ذكرناه قبل ذلك، وكان يحذّرهم من عبد الله بن عباس رضي الله عنه، ولكن الله هداه وتاب عليه، وعاد من تاب معه إلى الكوفة، فكانوا مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">أما الباقون الذين عاندوا ولم يرجعوا عن ما هم عليه فقد ظلوا يترددون على الكوفة، ويتردد عليهم رسل علي بن أبي طالب رضي الله عنه لإقناعهم، ولكن دون جدوى، ومع مرور الوقت، وقرب عقد المجلس الذي سوف يتم فيه التحكيم، بدأ هؤلاء يتعرضون لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه بما لا يليق، وخرجوا عن دائرة النقاش المهذب، وبدءوا بالسباب، والشتائم، وعلي رضي الله عنه يصبر عليهم، ويردّ عليهم بالتي هي أحسن تجنبًا للفتن، واستمرّ الوضع هكذا يزداد يومًا بعد يوم، حتى قام له رجل منهم، وهو يخطب فقال له: يا علي أشركت الرجال في دين الله، ولا حكم إلا لله.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">وتنادوا من كل جانب: لا حكم إلا لله.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: هذه كلمة حق أًريد بها باطل.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">ثم قال: إن لكم علينا ألا نمنعكم فيئًا ما دامت أيديكم معنا، وألا نمنعكم مساجد الله، وألا نبدأكم بقتال حتى تبدءونا.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">ثم بدءوا يعرّضون بتكفير علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقابله رجلٌ منهم يومًا وقال له: يا علي لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">فجعلوا أن تحكيم أبي موسى وعمرو بن العاص رضي الله عنهما في هذه القضية إشراكًا بالله.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">فقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه قول الله تعالى: <font color="blue" face="Simplified Arabic" size="4"><b>﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ﴾</b></font> <font face="Simplified Arabic" size="3">[الرُّوم:60]</font>.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">ثم اعتزل هؤلاء القوم الكوفة بالكلية، ولجئوا إلى مكان يُسمّى النهروان، ومكثوا فيه، ولم يدخلوا الكوفة بعد ذلك، فلما رأي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن أمرهم بدأ يزيد، ويشكل خطورة على المسلمين بعث إليهم يقول لهم: "قد كان من أمرنا وأمر الناس ما قد رأيتم، فقفوا حيث شئتم حتى تجتمع أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وبيننا وبينكم ألا تسفكوا دمًا حرامًا، أو تقطعوا سبيلًا، أو تظلموا ذميًّا - يهوديًا أو نصرانيًا - فإنكم إن فعلتم فقد نبذنا إليكم الحرب على سواء، إن الله لا يحب الخائنين".</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">ومكث الخوارج في النهروان بعيدًا عن الكوفة، وفي هذا التوقيت كان جيش الشام مستقرًا دون خلاف مع معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">وجاء شهر رمضان سنة 37 هـ، فأرسل علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى دومة الجندل أربعمائة فارس، معهم أبو موسى الأشعري، وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وأمّر عبد الله بن عباس على الصلاة.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">وأرسل معاوية رضي الله عنه أربعمائة فارس إلى أرض دومة الجندل معهم عمرو بن العاص رضي الله عنه، وكان معهم من رءوس الناس عبد الله بن الزبير بن العوام رضي الله عنهما، والمغيرة بن شعبة رضي الله عنه، وكان معهم أيضًا عبد الله بن عمر بن الخطّاب رضي الله عنهما، ولم يكن مع معاوية في القتال، ولكنه كان ممن اعتزل الفتنة، وإن كان يرى أن عليًا رضي الله عنه على الحق، وإنما كان حينئذٍ في الشام، فجاء مع الوفد الذي أرسله معاوية رضي الله عنه للتحكيم.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">وقد تمّ اختيار دومة الجندل للتحكيم لأنها تقع في مسافة متوسطة بين الكوفة، والشام فهي على بعد تسع مراحل من كلٍ منهما، وفي غالب الأمر لم يحضر سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه هذا الاجتماع.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt"><font color="blue" face="Simplified Arabic" size="4"><b>الحقيقة الغائبة في أمر التحكيم:</b></font></font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">من الأمور المحزنة التي يندى لها الجبين أن الذي اشتهر في أمر التحكيم تلك الرواية الشيعية الموضوعة المكذوبة المفتراة التي عمّت بها البلوى، وقد انتشرت تلك الرواية انتشارًا كبيرًا بعد انتهاء عصر الدولة الأموية، واشتداد شوكة الشيعة في عصر الدولة العباسية، بل ظلت هذه الرواية هي المنتشرة في كتبنا حتى الوقت المعاصر.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">هذه الرواية الشيعية في هذا الأمر وضعها أبو مخنف لوط بن يحيى، والذي قال عنه الإمام ابن حجر العسقلاني: لوط بن يحيى أبو مخنف إخباري تالف لا يوثق به. وقال عنه الدارقطني: ضعيف. وقال عنه يحيى بن معين: ليس بثقة. وقال مرة: ليس بشيء. وقال ابن عدي: شيعي محترق.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">تقول الرواية: عن أبي مخنف أن عمرو بن العاص قال: إن هذا الأمر لا يصلحه إلا رجل له ضرس يأكل ويطعم، وكان ابن عمر فيه غفلة؛ فقال له ابن الزبير: افطن وانتبه. أي قل شيئًا حتى تأخذ الإمارة، فقال ابن عمر: لا والله لا أرشوا عليها شيئًا أبدًا. أي أنه أبى الإمارة.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">فقال أبو موسى الأشعري: يا ابن العاص إن العرب قد أسندت إليك أمرها بعد ما تقارعت بالسيوف، وتشاكت بالرماح، فلا تردنّهم في فتنة مثلها، أو أشد منها.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">ويكمل أبو مخنّف كذبه فيقول: ثم إن عمرو بن العاص حاور أبا موسى أن يقرّ معاوية وحده على الناس، فأبى عليه، ثم حاوره ليكون ابنه عبد الله بن عمرو، هو الخليفة فأبى أيضًا، وطلب أبو موسى من عمرو أن يكون عبد الله بن عمر هو الخليفة فامتنع عمرو أيضًا، ثم اصطلحا على أن يخلعا معاوية، وعليًا ويتركا الأمر شورى بين الناس يتفقوا على من يختارونه لأنفسهم، ثم جاء إلى المجمع الذي فيه الناس، وكان عمرو بن العاص لا يتقدم بين يدي أبي موسى، بل يقدّمه في كلّ الأمور أدبًا وإجلالًا.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">فقال له: يا أبا موسى قمْ فأعلم الناس بما اتفقنا عليه، فخطب أبو موسى الناس، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم صلى على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال:</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">أيها الناس! إنا قد نظرنا في أمر هذه الأمة، فلم نر أمرًا أصلح لها، ولا ألم لشعثها من رأي اتفقت أنا وعمرو عليه، وهو أن نخلع عليًا ومعاوية، ونترك الأمر شورى، وتستقبل الأمة هذا الأمر، فيولى عليهم من أحبوه، وإني قد خلعت عليًا ومعاوية. ثم تنحى.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">وهناك روايات أكثر كذبًا تقول أنه قال: خلعته كما أخلع خاتمي من إصبعي، أو سيفي من عاتقي.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">وجاء عمرو بن العاص فقام مقامه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">إن هذا - يقصد أبا موسى الأشعري - قد قال ما سمعتم، وإنه قد خلع صاحبه، وإني قد خلعته كما خلعه، وأثبتُّ معاوية بن أبي سفيان، فإنه ولي عثمان بن عفان، والطالب بدمه، وهو أحق الناس بمقامه.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt"><b>وتكمل الرواية الشيعية الكاذبة:</b></font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">فلما حدث هذا وثب شريح بن هانئ من جيش علي بن أبي طالب رضي الله عنه فضربه بالسوط، فقام إليه ابنُ عمرو بن العاص وضربه بالسوط، وتفرّق الناس في كل وجه إلى بلادهم.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">فذكر أبو مخنف عن أبي حباب الكلبي أن عليًا لما بلغه ما فعل عمرو بن العاص كان يلعن في قنوته معاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، وأبا الأعور السلمي، وحبيب بن مسلمة، والضحاك بن قيس، وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد، والوليد بن عقبة، فلما بلغ ذلك معاوية كان يلعن في قنوته عليًا، وحسنًا، وحسينًا، وعبد الله بن عباس، والأشتر النخعي.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">وهذا كله كذب، وافتراء من أبي مخنف على صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، يقول ابن كثير في البداية والنهاية: ولا يصح هذا.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">هذه الرواية غير موافقةٍ للنقل، وغير موافقة للعقل.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">أما النقل أو علم الرجال فيقول:</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">إن لوط بن يحيى هذا شيعي كاذب ضال يضع الأحاديث والروايات، ويفتري على الصحابة ما لم يحدث، فكل ما يأتي من قبله إن لم يوافق الحق، فهو كذب، وباطل.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt"><b>أما أن هذه الرواية</b>: غير موافقة للعقل، فإن سياق الكلام لا يستقيم، لأن الحكمين كما جاء في تلك الرواية اتفقا على خلع علي ومعاوية.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">فمن أي شيءٍ يُخلَع معاوية، وهو رضي الله عنه لم يَدّع أنه خليفة للمسلمين، ولم يدّع أنه أمير المؤمنين، ولم يكن القتال على إمرة، ولم يقل أحد من الطرفين أن معاوية رضي الله عنه في هذا الوقت أمير المؤمنين.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt"><b>الأمر الثاني:</b> سياق القصة يؤكد كذب عمرو بن العاص رضي الله عنه، ولا يُعدّ هذا خداعَ حربٍ، بل هو كذبٌ بيّن، ولا يصح هذا في حق عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه، فقد يُتهم المؤمن بالجبن، وبالبخل، أما الكذب فلا، وخاصة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد شهد له بالإيمان فقال صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح: <font color="green" face="Simplified Arabic" size="4"><b>«أَسْلَمَ النَّاسُ وَآمَنَ عَمرُو بْنُ الْعَاصِ»</b></font>.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">فلا يصح على الإطلاق أن نقول عن رجل شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالإيمان أنه كاذب كما في هذه الرواية.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt"><b>الأمر الثالث:</b> أن المسلمين ليسوا في منتهى البلاهة والعجز حتى تنطوي عليهم هذه اللعبة الصبيانة المزعومة من عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه، وهو منها براء، ولو صح لوقف أبو موسى الأشعري وقال: إن هذا الكلام كذب حتى لا يتم الاتفاق.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt"><b>الأمر الرابع:</b> اتفق الجميع على أن هذا الأمر الذي تمّ بين الحكمين كان مشهودًا من مجموعة من رءوس الناس، وأعيانهم منهم عبد الله بن عمر، وعبد الله بن العباس، وعبد الله بن الزبير، والمغيرة بن شعبة، والأحنف بن قيس، وهؤلاء جميعًا من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، فأين هم إذن بعد أن قام عمرو بن العاص - كما يزعم الكذابون - وقال ما ينسبونه إليه.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt"><font color="blue" face="Simplified Arabic" size="4"><b>بين الحَكَمَيْن:</b></font></font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">بعد مشاورات كثيرة، ومحاورات، واختلاف في الرأي على أساس القضية، فكان أبو موسى الأشعري يؤيد علي بن أبي طالب رضي الله عنه في أنه تجب له البيعة من معاوية ومن معه، وبعد أن تستقر الأمور يُؤخذ الثأر من قتلة عثمان بن عفان رضي الله عنه، ولكن عمرو بن العاص طالب بقتلهم أولًا، أو تسليمهم إليهم ليقتلوهم، وبعدها يبايعون، فلما تحدثا في هذا الأمر كثيرًا ولم يصلا إلى شيءٍ، اتفقا على يُترك أمر تحديد الخلافة إلى مجموعة من الصحابة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ، وهم أعيان وكبار الصحابة، وفيهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ لأنه من السابقين الأولين، ولا يكون فيهم معاوية بن أبي سفيان، ولا عمرو بن العاص رضي الله عنهما؛ لأنهما ليسا من السابقين، ويُستعان برأيهما إن رأى القوم أن يستعينوا برأيهما، وإن لم يروا فلا يستعينوا برأيهما.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">واتفقوا بحضور الشهود على أن يكون هذا الاجتماع في العام المقبل في دومة الجندل، وذلك بعد أن يذهب هؤلاء الأعيان، ويتباحثون في الأمر ويرون الأولى به، وقد يكون الأولى به علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو الأقرب إلى الاحتمال، خاصة وأن هذه المجموعة هي التي اختارت عليًا رضي الله عنه ابتداءً، وليس عندهم اعتراض على شخصيته، ولكن عمرو بن العاص رأى أنه ربما تغيّرت الآراء بعد ما جرى من أحداث.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">وإلى أن يحين موعد هذا الاجتماع يحكم كلٌ من علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه ما تحت يده في الدولة الإسلامية، وبعد تعيين الخليفة الجديد على الجميع أن يطيع الخليفة الجديد سواءً رأى قتل قتلة عثمان أولًا أو رأى تأخير ذلك.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">ومن الواضح أن الحكم في ظاهره لصالح علي بن أبي طالب رضي الله عنه، خاصة وأن معاوية وعمرو بن العاص قد خرجا من الأمر تمامًا، ولم يكن لهما رأي في اختيار الخليفة الجديد.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">وتفرق المسلمون على هذا الأمر، وهم راضون تمامًا حتى يجتمع كبار الصحابة لتحديد الخليفة، ولما وصل الأمر إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه رضي به، وكذلك عندما وصل إلى معاوية رضي الله عنه.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">لكن الرواية الشيعية الكاذبة تقول: إن عليًا لما بلغه هذا الأمر غضب، وجهّز الجيوش لمحاربة معاوية ومن معه، وهذا ما لم يحدث على الإطلاق.</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt">ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ</font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt"><font face="Simplified Arabic" size="3">(1) المنقري: وقعة صفين ص481-484.</font></font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt"><font face="Simplified Arabic" size="3">(2) مصنف ابن أبي شيبة 8/376، البلاذري: أنساب الأشراف 3/131.</font></font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt"><font face="Simplified Arabic" size="3">(3) انظر: تاريخ الطبري من قوله: "فلما انتهى علي إلى الرقة... إلى قوله: ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين للهجرة" في خمس وستين صفحة، 5/296-330، 6/30. نقلاً عن د/حامد محمد الخليفة: الإنصاف ص437.</font></font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt"><font face="Simplified Arabic" size="3">(4) صححه الألباني.</font></font></p>
<p dir="rtl" style="text-align:justify;text-kashida:0%">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt"><font face="Simplified Arabic" size="3">(5) صححه الألباني.</font></font></p>
<p dir="rtl" style="text-align: left;">
<font face="Simplified Arabic" style="font-size: 14pt"><font color="DarkRed" face="Simplified Arabic" size="3">المصدر: قصة الإسلام</font></font></p>