موقع البرهان - بلوشستان الإقليم الساخن في إيران

دروس في أصول الفقه باب أقسام الكلام: أي هذا مبحثها وأل في دور الكلام للعهد الذكري أي أقسام الكلام هو أحد الأبواب المتقدم ذكرها وكذا يقال في ألف في الكلمة المضافة إلى كل باب. يهتم علماء الأصول بمباحث الكلام وأقسامه وهي مباحث نحوية وبلاغية وذلك لأنها هي المدخل إلى أصول الفقه حيث إن الأصول يعتمد على الكتاب والسنة، والاستدلال بهما متوفقان على معرفة اللغة العربية لأنهما بلسان عربي مبين ومن لا يعرف اللغة لا يمكنه استخراج الأحكام من الكتاب والسنة استخراجاً صحيحاً. أهـ [شرح الورقات للفوزان ص41]. إلا أن هذه المباحث ليست حاجتنا إليها في أصول الفقه على سبيل التفصيل أن ذلك معروف لنا من كتب النحو. وسنبدأ هنا بتعريف الكلام لغة واصطلاحاً. الكلام لغة: هو كل ما أفاد معنىً، فيشمل القول المفرد كزيد والمركب كقام زيد، والخط والإشارة ولسان الحال وكل ما أفهم المقصود. واصطلاحاً: هو اللفظ المركب المفيد بالوضع. وذلك مثل: الله ربنا ومحمد نبينا. وخرج بقولنا "اللفظ" ما ليس بلفظ كأصوات الحيوانات والرعد والمدافع...الخ. وخرج بقيد "التركيب" ما ليس مركباً مثل "محمد". وخرج بقيد "مفيد" ما لم يفد مثل "إن قام زيد". والمقصود بـ "المفيد": هو ما أفاد فائدة تامة يحسن السكوت عليها كقام زيد، وزيد قائم. والمقصود بـ "الوضع": الوضع العربي وهو جعل اللفظ دليلاً على المعنى كزيد فإنه لفظ عربي جعلته العرب دالاً على معنى وهو ذات وضع عليها لفظ زيد. خرج بالوضع العربي: كلام العجم كالترك والبربر فلا يقال له كلام عند النحاة(1). وإذا قلنا إن الوضع هنا هو القصد فيخرج به اللف غير المقصود كالصادر من النائم والساهي والسكران. ودخل في الحد المعلوم بالضرورة كـ "السماء فوقنا" و"الأرض تحتنا" و"النار حارة" إذ أن الصحيح أن لا يشترط في الفائدة أن تكون متجددة وأنه يجوز أن يكون الكلام كلاماً وإن لم يكن فيه فائدة متجددة. ولم يذكر الناظم تعريف الكلام بل اكتفى بذكر أقل ما يتركب منه الكلام وابتدأ الناظم به قبل بيان نفس الكلام لأن معرفة أقسام الشيء باعتبار أنها أقسامه رع نفسي معرفته(2) فكأنه قال: الكلام هو اللفظ المتألف من اسم أو اسم وفعل...الخ. قال الناظم: أقل ما منه الكلام ركبوا *** اسمان أو اسم وفعل كاركبوا كذاك من فعل وحرف وجدا *** وجاء من اسم وحرف في الندا والمعنى: أقل لفظ أو قول ألفوا منه الكلام ما يلي: أ- إسمان: وله أربع صور: 1- مبتدأ وخبر كـ "الله واحد". 2- مبتدأ وفاعل سد مسد الخبر نحو "أقائم الزيدان". 3- مبتدأ ونائب فاعل سد مسد الخبر نحو "أمضروب العمران". 4- واسم فعل وفاعله نحو "هيهات العقيق".. ب- أو اسم وفعل: وله صورتان: 1- فعل وفاعل: كاركبوا وجاء السعد ويجيء الخير. 2- فعل ونائب فاعل: نحو "ضُرِب زيد". ج- أو فعل وحرف: وهذا مذكور في قول الناظم كذاك من فعل وحرف بألف الإطلاق أي وجد كذلك من فعل وحرف، مثاله: ما قام ولم يقم. وهذا أثبته قوم منهم الناظم تبعاً لصاحب الأصل حيث لم يعدوا ويعتبروا الضمير في قام ولم يقم الراجع إلى زيد مثلاً فلم يعدوه كلمة وذلك لعدم ظهوره لأنه صورة عقلية لا تحق له ولا وجود له في الخارج إذ ليس بلفظ ولا وضع له لفظ وذلك تسهيلاً على المبتدي إذ الملفوظات أقرب إلى فهمه من المعقولات. وأما النحويون فقد عدوه كلمةً لأنه في حكم الملفوظ الموجود، وتتوقف الفائدة الكلامية عليه، وهو ضمير مستتر والمستتر كالثابت(2) وبناءً على اعتبار الضمير يكون الكلام مركباً من الفعل والاسم ويكون الحرف زائد على الكلام ومندرجاً في القسم الثاني(3). د- أو حرف واسم: وهذا في قول الناظم: وجاء من اسم وحرف في الندا، بمعنى المنادى نحو "يا زيد" فالكلام مجموع حرف النداء مع المنادى. ولاشك أن هذا ضعيف والمعتمد الذي جرى عليه الجمهور أن الكلام هو المقدور من الفعل مع فاعله وحرف النداء نائب عنه كما نابت "نعم" مثلاً عنه في جواب "هل قام زيد". وهذه الصور التي ذكرت هي أقل ما يتركب منها الكلام وأما جميع الصور فهي ثمان مع عدم اعتبار الصورة الثالثة لاندراجها في الصورة الثانية، وكذلك مع عدم اعتبار الصورة الرابعة لاندراجها في الصورة الثانية أيضاً. والصور الثمان هي: 1- اسمان حقيقة نحو "الدين المعاملة" أو اسمان حكماً نحو "الصدق منج" فإن الوصف مع ضميره في حكم المفرد. 2- أو ثلاثة أسماء نحو: "العدل أساس الملك"(4). 3- أو فعل واسم نحو: استقم، ومنه نحو "يا زيد". 4- أو فعل واسمان نحو: "كان الله غفوراً". 5- أو فعل وثلاثة أسماء نحو: "علمت الله واحداً. 6- أو فعل وأربعة أسماء نحو: أريت جميلاً البدر طالعاً. 7- أو أتمم جملة نحو: الحق يعلو، الظلم آخره ندم. 8- أو جملتان: وله صورتان: أ- الشرط والجزاء نحو: إن تُرد السلامة فاسلك سبيل الاستقامة. ب- والقسم والجواب نحو: أقسم بالله لمحمد خير الخلق. ولا يمكن أن يأتي كلام مفيد من الأحرف وحدها، ولا من الأحرف والأفعال فقط. ثم إن الكلام جمع كلمة. والكلمة في اللغة: تطلق على الكلام المفيد كقوله صلى الله عليه وسلم: «أصدق كلمة قالها العرب كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل». ومن قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100]. وتطلق أيضاً في اللغة: على كل ما دل على معنى وليس بلفظ. وأما اصطلاحاً في: قول مفرد. والقول: هو اللفظ الدال على معنى كزيد، فما لم يدل على معنى كاللفظ المهمل نحو: ديز فإنه لا يسمى قولاً وبهذا يعلم أن اللفظ أعم من القول والمفرد: هو ما لا يدل على جزؤه على معناه كرجل فإن كلاً من أجزائه أي حروفه الثلاثة إذا أفرد لا يدل على شيء مما دلت عليه جملته. فخرج من هذا القيد: المركب وهو: ما يدل كل واحد من جزأيه عل بعض معناه نحو: غلام زيد، وذلك لأن غلام زيد دال على منسوب ومنسوب إليه فإذا فككته دل غلام على المنسوب ودل زيد على المنسوب إليه(5). والكلمة: إما اسم أو فعل أو حرف. ووجه الحصر في الثلاثة أن الكلمة إما أن تدل على معنى في نفسها أو لا فإن لم تدل على معنى في نفسها بل في غيرها فهي الحرف مثلا: الطلاب في الفصل، وإن دلت على معنى في نفسها وأشعرت هيئتها بمزمن هي الفعل: كقام ويقوم وقم، وإن لم تشعر هيئتها بزمن فهي الاسم مثل محمد(6). والأسماء والأفعال والحروف تمس الحاجة إلى معرفتها. والأسماء من حيث دلالتها ثلاثة أنواع: الأول: ما يفيد العموم: كالأسماء الموصولة والنكرة في سياق النفي. الثاني: ما يفيد الإطلاق: كالنكرة في سياق لإثبات مثل قولك: أكرم رجلاً. فهي لا تعم جميع الرجال بل تعني رجلاً واحداً، فهي نكرة فيها شمول بدلي لا شمول عمومي فقولك: أكرم رجلاً، فهي تعم كل رجل على سبيل البذل، فإن كان أمامي مائة رجل وقلت أكرم رجلاً فهي تشمل أي واحد منهم ولا تشملهم كلهم، ولو قال رجل: أنا سأكرم كل المائة، قلنا هذا لا يصير لأنه خالف النصر وإنما تكرم واحداً من هؤلاء على سبيل البدل، فلك أن تكرم رقم 1 أو رقم 2 أو رقم 100 وهكذا إما أن تكرم المائة كلهم فلا، وهذا بخلاف العموم الشمولي فهو يشمل كل الأفراد على سبيل الشمول لا على سبيل البدل. الثالث: ما يفيد الخصوص: كالأعلام مثل زيد وعمروا وأحمد. تنبيه: لم نقسم الأسماء هنا إلى معرب ومبني لأن هذا من عمل النحاة ومباحثهم وإنما نقسم هنا دلالة الأسماء لما له من التعلق بمسائل الأصول. وأما الفعل فتعريفه: ما دل على معنى في نفسه وأشعر بهيئته بأحد الأزمنة الثلاثة. وقلنا في التعريف "وأشعر بهيئته بأحد الأزمنة..الخ" يخرج منه ما أشعر بمادته بأحد الأزمنة فمثلاً: ضرب: أشعر بهيئته بزمن ماضٍ. اضرب: أشعر بهيئته بزمن مستقبل. يضرب: أشعر بهيئته بزمن حاضر. ولم يشعر كل واحد من هذه الأمثلة بمادته بالزمن ولكن بهيئته. وهيئته: هي الفعل نفسه وهو الضرب هنا. وأما ما أشعر بمادته فهذا ليس فعلاً، مثل: الصباح: "زرتك صباحاً" فهذا دل على الزمن لكن بمادته، وكذلك مثل: المساء والليل والنهار. وأما قولنا: أصبح زيد وأمسى زيد، فهذا فعل لأن كلمة أصبح وأمسى دلت بهيئته على الزمن. ثم إن الفعل بأقسامه الثلاثة الماضي والمضارع والأمر يفيد الإطلاق فلا عموم له إلا بقرينة فقولنا "صام زيد يوم الاثنين" إنما دل على أنه صام يوم الاثنين فقط ولو مرة، أما إذا وجدت قرينة فنعم كقولنا: "كان يصوم يوم الاثنين" لأن كلمة كان تفيد الاستمرار غالباً، ولو قلت: "سها النبي صلى الله عليه وسلم فسجد" فلا يعم كل سهو بهذا اللفظ وإنما يعم كل سهو من حيث القياس: أنه لما سجد في السهو المعين فالقياس أن يسجد في كل سهو يماثله لأن الشريعة لا تفرق بين متماثلين. وأما الحرف فهو: ما دل على معنى في غيره. أي لا يدل على معنى بنفسه بل يظهر معناه في ما بعده. ومن الحرف: 1- الواو: وتأتي عاطفة فتفيد اشتراك المتعاطفين في الحكم ولا تقتضي الترتيب ولا تنافيه إلا بدليل. مثاله: قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ} [البقرة:158]. قالوا: فأفادت هنا التشريك ولم تفيد الترتيب، والترتيب إنما استفدناه من قوله صلى الله عليه وسلم: «ابدأوا بما بدأ الله به». وقوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ...} [التوبة:60]. فهنا الواو لا تفيد الترتيب بحيث إنك لا تعطي المساكين إلا بعد انتهاء الفقراء ولا تعطي العاملين عليها إلا بعد انتهاء المساكين وهكذا بل يجوز أن تعطي آخر واحد وتدع أول واحد. ومثال آخر: إذا قال شخص: هذا وقف على أولاده وأولادهم، فهذا يقتضي اشتراك الأولاد وأولادهم، إلا إذا وردت قرينة بأن قال مثلاً: هذا وقف على أولاده وأولادهم بطناً بعد بطن فهنا يبدأ بعد الأول، فلا نعطي البطن الثاني مع وجود البطن الأول. الفاء: فتأتي عاطفة فتفيد اشتراك المتعاطفين في الحكم مع الترتيب والتعقيب وتأتي سببي فتفيد التعليل. وننبه هنا إلى أنه لا يلزم من التعقيب الفورية فإذا قلت "تزوج زيد فولد له" فالمعنى: أنها ولدت بعد تسعة أشهر، لكن إذا حملت بعد شهرين لا يقال: "تزوج فولد له" لوجود الفاصل. ومن الأمثلة القرآنية على ذلك قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً} [الحـج:63]، أي ليس في ليلة، فالترتيب في كل شيء بحسبه. وأما مثال الفاء السببية: فمثل قوله تعالى: { وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} [طـه:81]، فهنا الفاء سببية أي ما قبلها علة لما بعدها. ومنه قولك: "لا تخاصم أباك فتغضب مولاك". 3- اللام الجارة: ولها معان منها: التعليل: مثاله: "أحببت زيداً لعلمه". والتمليك: مثاله: "هذا المال لك". والإباحة: مثاله: "للإنسان أن يصلي النفل قاعداً مع القدرة على القيام". 4- على الجارة: ولها معان منها الوجوب: مثل قولك: عليك بالتوبة، أي يجب. أقسام الكلام باعتبار مدلوله: قال الناظم رحمه الله: وقسم الكلام للإخبار *** والأمر والنهي والاستخبار يعني أن الكلام ينقسم باعتبار مدلوله إلى خبر وأمر ونهي واستخبار أي استفهام وذلك لأن الكلام لا يخلو إما أن يدل على الطلب أولاً فإن دل على طلب فعل: فأمر مثل "أقم الصلاة". أو دل على طلب ترك: فنهي مثل: {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [القصص:88]. أو دل على طلب خبر: فاستفهام مثل: "كم كتاباً عندك؟". وإما أن يدل على الطلب وكان يحتمل الصدق والكذب لذاته فهو الخبر، كـ "قام زيد". فيتضح مما سبق أن الكلام ينقسم باعتبار مدلوله إلى قسمين: 1- إلى طلب وهو ثلاثة: طلب فعل وطلب ترك وطلب خبر. 2- والثاني: إلى غير طلب: وهذا هو الخبر. وهناك تقسيم آخر اخصر من هذا وأفضل هو أن الكلام قسمان: خبر: وهو ما يحتمل الصدق والكذب لذاته: شرح التعريف: خرج بقولهم: "ما يحتمل الصدق والكذب" الإنشاء فإنه لا يتحمل ذلك لأن مدلوله ليس مخبراً عنه حتى يمكن أن يقال إنه صدق أو كذب. وخرج بقولهم "لذاته" الخبر الذي لا يحتمل الصدق أو لا يحتمل الكذب باعتبار المخبر به وذلك لأن الخبر من حيث المخبر به ثلاثة أقسام: الأول: ما لا يمكن وصفه بالكذب: كخبر الله ورسوله الثابت عنه. الثاني: ما لا يمكن وصفه بالصدق كالخبر المستحيل شرعاً أو عقلاً فالأول كخبر المدعي للرسالة بعد النبي صلى الله عليه وسلم والثاني كالخبر عن اجتماع النقيضين كالحركة والسكون في عين واحدة في زمن واحد. الثالث: ما يمكن أن يوصف بالصدق والكذب إما على السواء أو مع رجحان أحدهما كإخبار شخص عن قدوم غائب ونحوه(7). وهذا فإن أخبر به رجل معروف صدقه فالراجح صدقه وإن أخبر رجل معروف صدقه فالراجح صدقه وإن أخبر به رجل معروف بكذبه فالراجح كذبه وإن أخبر به شخص لا نعرف عنه شيئاً فاستوى الأمران. الثاني: الإنشاء: هو ما لا يحتمل الصدق والكذب: ومن الإنشاء: الأمر والنهي والاستفهام والتمني والعرض والقسم وهذه هي التي ذكرها الناظم ومما لم يذكره من أنواع الإنشاء النداء والترجي والتحضيض وأهم هذه الأنواع الأمر والنهي وما عداهما فلا يترتب عليه ذكره في الأصول كبير فائدة. والأمر: هو طلب الفعل على وجه الاستعلاء والإلزام. وله عدة معاني يأتي عليها وهي: 1- الدعاء: وهو طلب الأدنى من الأعلى مثل {قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا...} [آل عمران:147]. 2- الالتماس: وهو طلب الند من الند. 3- التخيير: وهو طلب لا يقصد به إلا تخيير المخاطب بين أمرين على أنه لا يحق له أن يأتي بالأمرين معاً في وقت واحد كقول الفقهاء: "تزوج هنداً أو اختها". 4- الإباحة: وتكون الإباحة حيث يتوهم المخاطب أن الفعل محظور عليه فيكون الأمر إذناً منه بالفعل ولا حرج عليه في الترك، مثل ذلك قوله تعالى في شأن الصائمين: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة:187]. 5- التعجيز: وهو طلب المخاطب تنفيذ أمر أشبه بالمستحيل ليظهر عجزه ويبين ضعفه تحدياً واستضعافاً. مثل ذلك: تحدي القرآن لأفذاذ العرب الذين يشكون في نزوله على الرسول صلى الله عليه وسلم {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:23]، وهيهات أن يستطيعوا نظم سورة من مثله أو عدداً من الآيات. وشبيه بالتعجيز مخاطبة الفرزدق لخصمه جرير: أولئك آبائي فجئني بمثلهم *** إذا جمعتنا يا جرير المجامع 6- التهديد: وهو طلب ليس فيه استعلاء ولا إلزام وإنما فيه قوة وتهديد ووعيد للمخاطب كأن يقول والد لولده: اهمل دروسك وسوف نتحاسب. ومثله قوله تعالى في خطاب الملحدين: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت:40]. وقول الشاعر: إذا لم تخش عاقبة الليالي *** ولم تستح فاصنع ما تشاء 7- التحقير: وهو طلب يحمل بين ثناياه التحقير والإهانة والإذلال. كقول جرير في هجاء الفرزدق: خذو كحلاً ومجمرة وعطراً *** فلستم يا فرزدق بالرجالِ وشمُّوا ريح عيبتكم فلستم(8) *** بأصحاب العناق ولا النزالِ فجرير لا يأمر الفرزدق ولكنه يسخر منه ويحتقره ويخاطبه بأسلوب ظاهره الأمر وباطنه الهجاء، فهو يصور الفرزدق بصورة المرأة التي تتعاطى الكحل والبخور والتجمل. 8- التسوية: هي طلب يوحي بأن الشيئين المراد فعلهما على حد سواء، وتختلف عن التخيير والإباحة في هدفها فلو قال لك قائل: صدَّق أو لا تصدِّق فإنه يهدف إلى تصديقك وعدمَه على قدم المساواة وحدٍّ سواء. 9- التمني: وهو طلب أمر محبوب لا يرجى الحصول عليه لاستحالته أو لتعذر تحققه. كقول امرئ القيس مخاطبته لليل: ألا أيها الليل الطويل ألا انجلِ *** بصبح وما الإصباح منك بأمثلِ 10- الإرشاد: وهو طلب خلا من كل تكليف والإلزام يحمل بين طياته النصيحة والإرشاد. كقول الولد لولده: يا بني استعذ بالله من شرار الناس(9). وبعد فليس لنا أن نحصر معاني الأمر فيما ذكرنا من بنود وإنما الواجب أن نفهم سياق الكلام وتعرف نفسية المتكلم أو المخاطب أو الجو العام الذي يطلق فيه أسلوب الأمر. وأما النهي فهو: طلب الكف عن الفعل على وجه الاستعلاء والإلزام. وله صيغة واحد: وهي الفعل المضارع المقرون بـ "لا" النهاية الجازمة كقولك: لا تهمل واجبك. وللنهي معاني أخر غير المعنى الحقيقي للنهي تستفاد من سياق الكلام وقرائن الأحوال، منها: 1- الدعاء: ويكون من الأدنى إلى الأعلى: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا...} [آل عمران:8]. 2- الالتماس: طلب الند من الند: كقول عمر بن أبي ربيعة لفتاته المحبوبة: فلا تقتليني إن رأيت صبابة *** إليك فإني لا يحل لكم قتلي والفتاة هنا ليست أعلى منه ولا أكبر وإنما هي حبيبة قبل كل شيء. 3- الإرشاد: طلب محل معنى النصيحة والإرشاد: كقول الشاعر شوقي يخاطب العقلاء: لا تسمعوا للمرجفين وجهلهم *** فمصيبة الإسلام من جهاله 4- التمني: وهو طلب موجه إلى غير العقلاء، فلو سمعنا الشاعر يقول: ويا ليلة الأنس لا تنقضي *** فإن الحبيب علينا رضي 5- التهديد: وهو طلب يحمل في ثناياه معنى الإنذار والوعيد والتخويف ويكون هذا الأسلوب بمخاطبة الأدنى قدراً ومنزلة كقول أبٍ لولدٍ عاق: لا تقلع عن عنادك، ولا تدرس دروسك. 6- التحقير: وهو أسلوب هجائي طالما استخدمه الشعراء ليذلوا مهجوِّهم، كقول الحطيئة للزبرقان بن بدر: دع المكارم لا ترحل لبغيتها *** فإنك أنت الطاعم الكاسي وقول الشاعر: لا تطلب المجد إن المجد سُلَّمه *** صعب وعيش مستريحاً ناعم البالِ 7- التيئيس: ويكون في حال الخاطب الذي يهم بأمرٍ لا يقوى عليه وليس من أهله، مثاله قول الشاعر: لا تعرضنَّ لجعفر متشبَّهاً *** بندى يديه فلست من أنداده وأما الاستفهام فهو: طلب العلم بشيء لم يكن معلوماً من قبل. وأدواته هي: الهمزة، وهل، ومَنْ، وما، ومتى وأيان، وأين، وأنَّى، وكم، وأي. "واعلم أن هل لطلب التصديق أو بمعنى آخر نسبة الحكم إلى الشيء بخلاف الهمزة التي للاستفهام فإنه لطلب التعيين فهي للسؤال عن المفرد أي التصور، ولذا يقال في جواب الأول نعم أو لا، بخلاف الثاني فإنه إذا قيل أتريد عندك أم عمرو؟ فلا يحسن أن يقال لا أو نعم لأن الأول لنفي الشبه والثاني لإثباتها"(10). ثم قال الناظم: ثم الكلام ثانياً قد انقسم *** إلى تمنٍّ ولعرض وقسم أي كما أن الكلام كما انقسم أو لا إلى ما ذكر، قد انقسم ثانياً إلى: تمنٍّ: وهو طلب ما لا طمع فيه أو ما فيه عسر. فالأول نحو: ألا ليت الشباب يعود يوماً *** فأخبره بما فعل المشيب وقول الشاعر: ليت الكواكب تدنو لي فأنظمها *** عقود مدح فما أرضى لكم كلمي والثاني نحو قول منقطع الرجاء: ليت لي مالاً فأحج منه. وترك ذكر الترجي لأن ماهيته ماهية التمني وإنما الفرق بينهما من جهة الاستعمال لأن التمني يستعمل في الممكن والمحال، والترجي لا يستعمل إلا في الممكن وذلك أن ماهية التمني محبة حصول الشيء سواء كنت تنتظره وتترقب حصوله أو لا. والترجي: ارتقاب شيء لا وثوق بحصوله فمن ثم لا يقال: لعل الشمس تغرب، ويدخل في الارتقاب الطمع والإشفاق فالطمع ارتقاب المحبوب، والإشفاق: ارتقاب المكروه، نحو: "لعلك تموت الساعة" وأنت كاره موته ولا يضر في الاتحاد اختلاف الأداة لأنها خارجة عن الحقيقة(11). قوله: "ولعرض" أي انقسم أيضاً إلى عرْض بسكون الراء: وهو كلام مصدر بـ"ألا" دال بالوضع على طلب برفق ولين نحو: "ألا تنزل عندنا". وترك التحضيض: وهو كلام مصدر بـ"هلا" دال على طلب بحث وإزعاج نحو: هلا أكرمت زيداً، لاتحاد حقيقتهما لأن كلاً منهما طلب أمر محبوب لكن أحدهما برفق والآخر بإزعاج واختلاف الأداة لا يضر لأنها خارجة عن الحقيقة(12). قوله: "وقسم" أي وانقسم أيضاً إلى قسم وهو كلام دال على اليمين. يكون القسم بثلاثة أحرف: الباء والواو والتاء. و"الباء" هي الأصل في أحرف القسم لدخولها على كل مُقسَم به سواء كان اسماً ظاهراً أو ضميراً نحو: أقسم بالله، وأقسم بك(13). والواو تختص بالدخول على الاسم الظاهر دون الضمير نحو: والله إن سؤال اللئيم ذل. والتاء: تختص بالدخول على اسم الله تعالى وحده نحو: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم} [الأنبياء:57]. والحروف التي تدخل على جواب القسم أربعة هي: اللام، إن، ما، لا. فإذا كان المقسم عليه مثبتاً فتدخل عليه "اللام، إن" نحو: "والله لموت شريف خير من حياة ذليلة" ونحو: {وَالْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:1-2]. وإن كان الجواب منفياً دخلت عليه "ما، لا" نحو: والله ما العمل اليدوي مهانة، ونحو: والله لا قصرت في القيام بواجبي. ملاحظة: يكون القسم بغير تلك الأحرف فتقول: لعمرك إن البعث حق، وأقسم بالله إن محمداً لصادق، وحقك ما جئت بريبة، وهكذا(14).... تنبيه: إنما أعاد الناظم الفعل بقوله ثم الكلام ثانياً قد انقسم إلى تمن...الخ مع أن ما قبله وما بعده تقسيم واحد، فكان ينبغي أن يختصر على قوله وإلى تمن...الخ، إشارة إلى أن منهم من اقتصر إلى تقسيمه إلى ما تقدم وأنه يزاد عليه انقسامه أيضاً إلى هذه المذكورات وهذه من دقائق هذه المنظومة(15). أقسام الكلام باعتبار استعماله قال الناظم رحمه الله: وثالثاً إلى مجازٍ وإلى *** حقيقة وحدها ما استعملا من ذاك في موضوعه *** وقيل ما يجرى خطاباً في اصطلاح قدما يعني وانقسم الكلام انقساماً ثالثاً أي انقساماً مغايراً للوجه الذي انقسم باعتبار استعماله في مدلوله أو غيره إلى قسمين: مجاز وإلى حقيقة. ثم أخذ الناظم في ذكر تعاريف الحقيقة وأقسامها في قوله وحدها(16) أي تعريفها والضمير يعود إلى الحقيقة. ونحن هنا سنذكر تعريفها في اللغة ثم في الاصطلاح. الحقيقة لغة: الحقيقة فعلية من: حق الشيء بمعنى ثبت، ومنه قوله تعالى: {وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الزمر:71]، وهي إما بمعنى الفاعل أي: الثابت فالتاء فيها للتأنيث. أو بمعنى: المثبت من: حققت الشيء أحقه بمعنى: أثبته فالتاء فيها للنقل من الوصفية إلى الاسمية(17)، وذلك أن اللفظ إذا صار بنفسه اسماً لغلبة الاستعمال بعد ما كان وصفاً كان اسميته فرعاً لوصفيته فجعل التاء علامة للفرعية كما جعل ذلك في علَّامة لمن كثر علمه(18) ومن أمثلة ذلك النطيحة ولذا لا يقال بهيمة نطيحة، لأن نطيحة هنا غلبت عليها الاسمية فلا يصح الوصف بها. وأما تعريفها في الاصطلاح فقد عرفها الناظم بقوله: .... وحدها ما استعملا من ذاك في موضوعه وقيل ما *** يجري خطاباً في اصطلاح قدما فذكر الناظم هنا تعريفين للحقيقة: الأول: بنظمه قوله: "وحدها": أي تعريفها، "ما": أي لفظ "استعملا": بأنه الإطلاق. "من ذاك" أي من الكلام "في موضوعه": أي مما استعمل فيما وضع له ابتداء. وحاصل المعنى: أن تعريف الحقيقة هي: لفظ استعمل فيما وضع له ابتداء، مثل أسد: للحيوان المفترس. والمراد: لفظ بقي في الاستعمال على موضوعه. شرح التعريف: خرج بالمستعمل: ما لم يستعمل أصلاً سواء وضع أو لم يوضع. والاستعمال: "إطلاق اللفظ على المعنى وإرادة فهمه منه" قاله السيد(19). وخرج بقيد "الوضع" اللفظ المهمل والغلط كقولك: "خذ هذا الفرس" مشيراً إلى حمار، فلا يسمى ما خرج حقيقة ولا مجازاً. وخرج بقيد "الابتداء" المجاز فإنه لم يوضع ابتداء. وهذا التعريف يزد عليه أنه خاص بالحقيقة اللغوية فلا يشمل الشرعية اللغوية كما سيأتي: وأما التعريف الثاني: فانتظمه قوله: .............. وقيل ما *** يجرى خطاباً في اصطلاح قدما أي وقال بعضهم في تعريف الحقيقة هو: "ما" أي لفظ يجري خطاباً بأن استعمل في اصطلاح صادر من الجماعة المخاطبة بذلك اللفظ - أي اللفظ المستعمل في الاصطلاح الصادر من الجماعة المخاطبة-. وقوله "في اصطلاح قدما" أي في اصطلاح متقدم. وحاصل المراد أنه قيل في تعريف الحقيقة أيضاً بأنها: ما استعمل فيما اصطلح عليه من المخاطِبة - بكسر الطاء – أي الجماعة المخاطبة بذلك اللفظ، بأن عينته على ذلك المعنى بنفسه، وإن لم يبق على موضوعه اللغوي كالصلاة في لسان الشرع: للهيئة المخصوصة فإنه لم يبق على موضوعه وهو الدعاء، والدابة الموضوعة في العرف لذات الأربع كالحمار فإنه لم يبق على موضوعه وهو كل ما يدب – بكسر الدال من باب ضرب – على الأرض. تعريف الاصطلاح: هو اتفاق قوم على استعمال شيء في شيء معلوم عندهم، كاتفاق أهل الشرع على استعمال الصلاة في الأقوال والأفعال المخصوصة وأهل اللغة على استعمال الصلاة بمعنى الدعاء، وهكذا الدابة عند أهل العرف تطلق على ذات الأربع فقط كالفرس. وينسب كل اصطلاح إلى من اصطلح عليه، وهذا التعريف أولى من التعريف الأول لأنه لا يشمل الحقيقة الشرعية لا العرفية لأنهما نقلتا عن موضوعهما اللغوي، بخلاف هذا التعريف فإنه شامل لهما فحينئذ يكون التعريف الأول مخصوصاً بالحقيقة اللغوية. تعريف آخر للحقيقة: وهناك تعريف أخصر وأشمل ذكره الشوكاني في الإرشاد ص21 فقال الحقيقة: اللفظ المستعمل فيما وضع له. فقوله: اللفظ: جنس في التعريف، يشمل المعرَّف وغيره. وقوله: المستعمل: هذا قيد في التعريف يخرج المهمل مثل ديز مقلوب زيد. وقوله: فيما وضع له: هذا قيد ثانٍ يخرج المجاز لأن المجاز في غير ما وضع له. أقسام الحقيقة باعتبار الواضع: تنقسم الحقيقة باعتبار الواضع إلى ثلاثة أقسام وقد ذكرها الناظم بقوله: أقسامها ثلاثة شرعي *** واللغوي الوضع والعرفي أي فالحقيقة تنقسم إلى حقيقة شرعية ولغوية وعرفية. فالشرعية: هي اللفظ المستعمل فيما وضع له في الشرع. كالصلاة معناها: التعبد لله تعالى بأفعال وأقوال، أولها التكبير وآخرها التسليم على الصفة المخصوصة. والحقيقة اللغوية: هي اللفظ المستعمل فيما وضع له في اللغة، مثل الصيام فهو في اللغة: الإمساك، قال النابغة: خيل صائمة وخيل غير صائمة *** تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما أي خيل ممسكة من الجري والحركة. والحقيقة العرفية: هي اللفظ المستعمل فيما وضع له في العرف: وهي نوعان: أ- عرفية عامة: وهي ما تعارف عليه عامة أهل العرف مثل لفظ الدابة فهي في اللغة: اسم لكل ما يدب على الأرض غير أن العرف خصصه بذوات الأربع كما تقدم. ب- عرفية خاصة: وهي ما تعارف عليه بعض الطوائف من الألفاظ وصنعوها لمعنى عندهم. مثل الجزم فهو في اللغة كما في القاموس وعند النحويين نوع من الإعراب. فالحقيقة العرفية العامة هي التي لم يتعيَّن ناقلها من المعنى اللغوي والخاصة عكسها. وقد أشار ابن بدران في المدخل إلى الفائدة من معرفة أقسام الحقيقة فقال ص174: "ومتى ورد اللفظ وجب حمله على الحقيقة في بابه لغة أو شرعاً أو عرفاً"(20). قال الناظم رحمه الله: ثم المجاز مابه تجوِّز *** في اللفظ موضوعه تجوُّزا يعني أن المجاز على ما اختاره من التعريف الأول للحقيقة هو: ما: أي لفظ، تجوزاً: بألف الإطلاق، والبناء للمفعول أو الفاعل أي تعدَّى به المتجوِّز في اللفظ المستعمل والمراد: اللفظ الذي تعدَّى به المتجوِّز في الاستعمال عن موضوعه تعدياً صحيحاً بأن يكون لعلاقة بينه وبين موضوعه اللغوي، وقوله، وقوله "عن موضوعه" أي: كل موضوع له لغوي. وهذا التعريف الذي ذكره الناظم لم يزد فيه: مع قرينة مانعة عن إرادة موضوعه، وذلك جرياً على ما جرى عليه أهل الأصول من حذفهم لفظ القرينة في تعريف المجاز، وقد زاد هذه الزيادة البيانيون عند تعريفهم للمجاز، وقد وقع هذا التقييد في بعض كتب الأصول. وحاصل تعريف المجاز بناءً على التعريف الأول للحقيقة أنه: اللفظ المستعمل في غير ما وضع له لعلاقةٍ مع قرينةٍ مانعة من إرادة المعنى الحقيقي. ويمكننا استبدال لفظة المعنى الحقيقي بـ "ما وضع له أولاً". تعريف المجاز لغة: والمجاز في الأصل مفعل من أجاز المكان يجوزه إذا تعداه فنقل إلى الكلمة الجائزة: أي المتعدية مكانها الأصلي(21). تعريف المجاز بناءً على التعريف الثاني للحقيقة: وللمجاز تعريف آخر بناءً على التعريف الثاني للحقيقة الذي هو: "ما استعمل فيما اصطلح عليه من المخاطبة" فيكون تعريف المجاز حينئذ بأنه: "ما استعمل فيه غير ما اصطلح عليه من المخاطبة". شرح التعريف: معنى التعريف السابق هو: اللفظ المستعمل في غير المعنى الذي اصطلحت عليه الجماعة المخاطبة به على استعماله فيه". ذلك لأن "ما" الأولى تعني اللفظ. و"ما" الثانية تعني: معنى. والمخاطبة بكسر الطاء أي الجماعة المخاطِبة غيرها بذلك اللفظ. تنبيه: هذا التعريف لم يُذكر فيه قيد" العلاقة بين المعنى المجازي والمعنى الحقيقي". وكذلك قيد "القرينة". لذا فالتعريف الأكمل للمجاز هو: اللفظ المستعمل في غير المعنى الذي اصطلحت الجماعة المخاطبة للعلاقة مع القرينة الصارفة لإرادة المعنى الذي اصطلحت عليه المخاطبة. محترزات التعريف: خرج بقيد "المستعمل" المهمل وما وضع ولم يستعمل. وخرج بقولهم: "في غير المعنى الذي اصطلحت عليه المخاطبة" الحقيقة فإنها استعملت في المعنى الذي اصطلحت عليه المخاطبة. وقولهم "المخاطبة قيد لإدخال اللفظ الذي وضع لمعنيين في اصطلاحين في المجاز وإخراجه عنه. وذلك كلفظ "الصلاة" فإنها إن استعملها اللغوي في الأقوال والأفعال فهي داخلة في المجاز باعتبار استعمال المخاطب بها لأن استعمالها فيها استعمال في غير ما اصطلح عليه المخاطب بها وهي خارجة عن المجاز باعتبار استعمال الفقهاء، وذلك لأنها استعملت حينئذ في المعنى الذي اصطلح عليه المخاطب وهم الفقهاء هنا، ولكن إذا استعملها الفقهاء في الدعاء فإنها تكون داخلة في المجاز بناءً على أنها استعملت في غير المعنى الذي اصطلح عليه المخاطب وهي خارجة عن المجاز باعتبار استعمال اللغوي لها فيه(22). وخرج بقيد "العلاقة" الغلط نحو: خذ الكتاب مشيراً إلى فرس فإنه وإن صدق عليه أنه استعمل في غير ما وضع له لكن ليس لعلاقة. والعلاقة بالفتح تطلق على المعاني كعلاقة الحب، وبالكسر على الأعيان كعلاقة السيف، والمراد بها هنا: تعلُّقُ ما للمعنى المجازي بالمعنى الحقيقي(23). وقولهم "مع القرنية...الخ" يخرج به الكناية لأنها مستعملة في غير ما وضع اللفظ له مع جواز إرادة المعنى الحقيقي. مثل قولك للمتردد في أمر: مالك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى. فهذا استعمال لهذا التركيب في غير ما وضع اللفظ له مع جواز إرادة هذا الكلام حقيقته في رجل يعمل هذا الصنع. مثال على ما سبق: رأيت أسداً يرمي، فأسد هنا مجاز مراد بها الشجاع والعلاقة مشابهة والقرينة لفظية. أنواع المجاز: بعد أن ذكر الناظم الحقيقة وأنواعها ذكر هنا أنواع المجاز وبعد ذلك حقيقته فقال: بِنَقْـصٍ اوْ زِيَـــادَةٍ أَوْ نَقْـلِ *** أَوِاسْتِعَـــــارَةٍ كَنَقْـص أَهْـلِ وَ هْوَ الْمُـرَادُ فِي سُـؤَالِ القَرْيَـهْ *** كَمَــا أَتَى فِي الـذِّكْرِ دُونَ مِرْيَـهْ وَكَازْدِيَادِ الكَـــافِ فِي "كَمِثْلِهِ" *** وَالغَــائِطِ الْمَنْقُـوْلِ عَنْ مَحَلِّــهِ رَابِعُهَـا كَقَــولِـهِ تَعَــالَى: *** "يُرِيــدُ أَنْ يَنْقَـضَ" يَعْنِي مَــالَا ما ذكره الناظم يدخل تحت نوع من أنواع المجاز وهو المجاز اللفظي وهناك نوع آخر من المجاز هو المجاز الإسنادي ويسمى أيضاً المجاز العقلي. والمجاز اللفظي: هو الذي سبق تعريفه، حيث تنقل اللفظة أو الكلمة من معناها الأصلي إلى المعنى المجازي. وأما المجاز الإسنادي فهو: الذي يكون التجوُّز فيه في الإسناد، حيث يسند الفعل وما في معناه إلى غير ما هو له في الحقيقة. ولابد من علاقة مع وجود قرينة تمنع من إرادة المعنى الأصلي والإسناد المجازي يكون إلى: سبب الفعل أو زمانه أو مكانه أو مصدره أو بإسناد المبني للفاعل إلى المفعول أو المبني للمفعول إلى الفاعل. مثال الأول: قول المتنبي واصفاً ملك الروم بعد أن هزمه سيف الدولة: ويمشي به العكاز في الدير تائباً *** وقد كان يأبى مشيي أشقر أجردا ففي هذا مثال نجد الفعل أسند إلى غير فاعله فإن العكاز لا يمشي وإنما يسير صاحب العكاز، ولكن لما كان العكاز سبباً في المشي أسند الفعل إليه. ومثال الثاني: نهار الزاهد صائم وليله قائم، وجرى النهر. نجد أن الصوم أسند إلى ضمير النهار مع أن النهار لا يصوم بل يصوم من فيه والليل لا يقوم بل يقوم من فيه، والنهر لا يجري بل يجري الماء الذ فيه، فالفعل في هذين المثالين أسند إلى غير ما هو له والذي سوَّغ ذلك الإسناد أن المسند إليه في المثالين زمان الفعل أو مكانه. ولا نحب أن نستفصل في ذكر الأمثلة هنا لأن هذا موضعه علم البيان وإنما نذكر هنا جملة يسيرة عنه تعرِّ به. وبعد هذا نعود إلى ما ذكره الناظم من أنواع المجاز بالكلمة حيث ذكر أنه أربعة أنواع: 1- مجاز بالنقص. 2- ومجاز بالزيادة. 3- ومجاز بالنقل. 4- ومجاز بالاستعارة. وذلك في قوله: بِنَقْـصٍ أوْ زِيَـــادَةٍ أَوْ نَقْـلِ *** أَوِ اسْتِعَـــــارَةٍ كَنَقْـص أَهْـلِ وهذا البيت له ارتباط بما قبله فالجار والمجرور "بنقص" متعلق بالمصدر قبله "تجوُّزا" في قوله: ثُمَّ الْمَجَـازُ مَـــا بِهِ تُجُـوِّزَا *** فِي اللَّفْظِ عَنْ مَـوْضُـوعِـهِ تَجَوُّزَا أي وتجوُّز المجاز الذي يطلق عليه هذا اللفظ(24) اصطلاحاً، إما أن يكون بنقص أي بسبب نقص لفظ في العبارة أو بزيادة لفظ على العبارة، أو نقل أي بسبب نقل اللفظ عن معناه الأصلي إلى معنى آخر للمناسبة بين المنقول عنه والمعنى المنقول إليه، و استعارة أي وبسبب استعارة وهي ما كانت علاقته المشابهة وكثيراً ما يطلق المعنى المصدري الذي هو استعمال اسم المشبه به في الشبه للمشابهة، فإن كانت العلاقة غير المشابهة سمي مجازاً مرسلاً. ثم شرع الناظم في تمثيل ما يطلق عليه اسم المجاز اصطلاحاً: أولاً: المجاز بالنقص: أي بالحذف: وشرطه أن يكون في المُظهر دليل على المحذوف. والنقص قد يكون بنقص اسم أو حرف. فمثال نقصان الحرف قوله تعالى: {تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} [يوسف:85]، أي لا تفتؤ ومثال نقصان الاسم ما مثل به المصنف في قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف:82]، أي أهل القرية ففيه حذف للقطع بأن المقصود سؤال أهل القرية لا سؤال القرية لأنها عبارة عن الأبنية المجتمعة، وسؤالها وإجابتها من المحال، والقرينة هنا عقلية، إذن ففي هذا المثال مجاز بالنقص حيث أطلق {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} وأريد سؤال أهل القرية فيكون استعمال اللفظ في غير موضوعه مجازاً أو يسمى هذا النوع مجاز الإضمار. وقد يقال يحتمل أن المراد أهلها من باب إطلاق المحل على الحال فلا يكون فيه نقص(25). وهذا المثال الذي ذكرناه هنا ذكره الناظم في قوله: ............................... *** ........... كَنَقْـص أَهْـلِ وَ هْوَ الْمُـرَادُ فِي سُـؤَالِ القَرْيَـهْ *** كَمَــا أَتَى فِي الـذِّكْرِ دُونَ مِرْيَـهْ فقوله كنقص أهل أي من نحو قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} كما قال كما أتى في الذكر أي القرآن وقوله: "دون مريه" أي بغير شك وهو تكملة. ثانياً: مجاز بالزيادة: والزيادة قد تكون بالاسم أو الحذف. فمثال الاسم قوله تعالى: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46]، إذ المراد فرعون نفسه. ومثال الحرف ما مثل به الناظم في قوله: وَكَازْدِيَادِ الكَـــافِ فِي "كَمِثْلِهِ أي ومثل زيادة الكاف في قوله تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، فالكاف هنا زائد التوكيد نفي المثل، ولو لم نقل بأنها زائدة لكانت بمعنى "مثل" وهذا باطل لما يلزم عليه من إثبات المثل لله تعالى، إذ يصير المعنى "ليس مثل مثله شيء" فالمنفي في هذه العبارة "مثل المثل" وأما المثل فهو ثابت، إذ معناها هناك مثالاً لله، ولكن ليس لهذا المثل مثل وهذا باطل لأن المقصود من الآية نفي أيُّ مثل لله. ووجه المجازية هنا: هو أنه استعمل نفي مثل المثل في نفي المثل، فقد تجوز في اللفظ وتعدى به عن معناه إلى معنى آخر(26). وقال جماعة: التحقيق أن الكاف ليست زائدة ولا يلزم محذور لأنه إما أن نجعل مثل بمعنى الذات كما في قولهم مثلك لا يفعل كذا لقصد المبالغة في نفي ذلك الفعل عنه لأنه إذا انتفى عمن يماثله ويناسبه كان نفيه عنه أولى أو بمعنى الصفة فيكون المعنى ليس كذاته شيء أي ليس كذاته ذات، أو ليس كصفته شيء أو ليس كصفته صفة أو غير ذلك مما هو مذكور في المطولات. ثالثاً: مجاز بالنقل: ومثاله: كلمة الغائط فهو في أصل الوضع اسم للمكان المطمئن من الأرض تقضى فيه الحاجة طلباً للستر، ثم نقل وصار يطلق على الخارج من الإنسان والعلاقة المجاورة، وهذا المثال في قول الناظم: وَالغَــائِطِ الْمَنْقُـوْلِ عَنْ مَحَلِّــهِ رابعاً: مجاز بالاستعارة: قال الناظم: رَابِعُهَـا كَقَــولِـهِ تَعَــالَى: *** "يُرِيــدُ أَنْ يَنْقَـضَ" يَعْنِي مَــالَا أي رابع ما يطلق عليه أنه مجاز اصطلاحاً هو المجاز بالاستعارة كقوله تعالى، يريد من قوله تعالى: {جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ} [الكهف:77]، عني يسقط لأنه مالا بألف الإطلاق. فالإرادة الحقيقية غير مرادة إذ لا إرادة لجماد فوجب الصرف إلى المجاز فشبه ميله إلى السقوط بإرادة السقوط التي هي من صفات الحي دون الجماد بجامع القرب من الفعل في كل، وأطلق اسم المشبه به وهو للإرادة على المشبه وهو ميله إلى السقوط واشتق من لفظ الإرادة يريد فالاستعارة في المصدر أصلية وفي الفعل تبعية لجريانها فيه بتبعية جريانها في المصدر فظهر أن قوله يريد مجاز مبني على التشبيه يسمى استعارة(27). ألفاظ العام: ألفاظ العام أربعة منها: 1- الأسماء المبهمة: ومعنى أنها لا تدل على معين وذلك في أسماء الشرط والاستفهام وأما الابهام أنها لا تدل على معين وذلك في أسماء الشرط والاستفهام وأما الابهام في الأسماء الموصولة فيعني افتقارها إلى صلة تعينِّن المراد. والأسماء المبهمة تشمل أسماء الشرط والاستفهام والأسماء الموصولة. وذكر الناظم منها ما يلي: - من: وهي تكون موصولة واستفهامية وشرطية. مثال الموصولة، قوله تعالى: {وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِندَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ} [الأنبياء:19]. ومثال الاستفهامية: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]. ومثال الشرطية: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا} [النمل:89]، {مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء:123]. وقوله صلى الله عليه وسلم: «من صلى صلاةً لم يقرأ فيها بأم الكتاب فهو خداج...». وهذه تفيد العموم بالاتفاق. ومن للعموم في العاقل كما مثلنا. - ما: وهي تكون موصولة واستفهامية وشرطية. مثال الموصولة: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ} [النحل:96]. ومال الاستفهامية: "ما الذين عندك؟". ومثال الشرطية: {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ} [البقرة:197]، {وَمَا عِندَ اللّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ} [آل عمران:198]. وما للعموم في غير العاقل. وقد تستعمل للعاقل ومن لغير العاقل لأغراض بلاغية. - أي: وهي تستعمل للعاقل وغير العاقل وتكون شرطية واستفهامية وموصولة. مثال الشرطية: قوله صلى الله عليه وسلم: «إيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل». {أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ} [القصص:28]، وهي هنا لغير العاقل. ومثال الاستفهامية: {ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا} [الكهف:12]، وهي هنا لغير العاقل. ومثال الموصولة: {ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا} [مريم:69]. - أين في المكان: أي أن أين تكون استفهامية للسؤال عن المكان كقوله تعالى: {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} [التكوير:26]. وتأتي شرطية كقوله تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ} [النساء:78]. - متى للزمان: أي أنها تكون استفهامية للسؤال عن الزمان نحو "متى تسافر" وتأتي شرطية نحو "متى تسافر أسافر". 2- ومن ألفاظ العموم: لا في النكرات: والمراد أن "لا" المركبة مع النكرة تفيد العموم كقوله تعالى: { فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197]، وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» [متفق عليه]. 3-4: الجمع والمفرد المعرفان بالألف واللام: وبقي صيف لم يتعرض لها الناظم ومنها: - لفظ كل: وهي من أقوى صيغ العموم لأنها تشمل العاقل وغيره، المذكر والمؤنث المفرد والمثنى والجمع، قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [العنكبوت:57]، وقال صلى الله عليه وسلم: «كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها» [مسلم]. ويلحق بـ "كل" ما دلى على العموم بمادته مثل "جميع، ومعشر ومعاشر وعامة وكافة ونحوها...". - المضاف إلى معرفة سواءً كان مفرداً أو جمعاً: كقوله تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا} [النحل:18]، وقوله: {يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ} [النساء:11]. وقول الناظم رحمه الله: ثُمَّ العُمُـومُ أُبْطِـلَتْ دَعْــواهُ *** فِي الفِعْـلِ بَـلْ وَمَـا جَرَى مَجْرَاهُ يعني أن العموم قد أبطل العلماء صحة دعواه في غير النطق أي المنطوق وهو اللفظ، فالعموم من صفات الألفاظ فيقال لفظ عام، ولذا فإن الفعل وما جرى مجراه لا يفيد العموم والمسألة خلافية. ومثال الأول: قول بلال ري الله عنه: "صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم داخل الكعبة" [متفق عليه]، فهذا لا يعم الفرض والنفل إذ لا يتصور أن هذه الصلاة فرض ونفل معاً. ومثلوا له أيضاً بحديث أنس: كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين الصلاتين في السفر [رواه البخاري]، وما ورد عنه صلى الله عليه وسلم بالقصر في السفر. فلا يصح دعوى العموم في هذا الجمع والقصر فإنه لا يعم السفر الطويل والقصير، وسفر الطاعة والمعصية وإن كان الرسول معصوم عن سفر المعصية. فإذا جاء إنسان وسافر مطلق بسفر فقال: أنا أقصر الصلاة لأن الرسول قصر في السفر، أو سافر سفر معصية وقال أنا أقصر في السفر مستدلاً بعموم الفعل، فنقول له: لا، الفعل لا يؤخذ منه العموم بل نقتصر في السفر الذي قصر فيه رسول الله وما عداه ليس لك حق لأنه لم يأت فيه نصر، إذن فهذه قاعدة مهمة جداً. ومثال الثاني: أي الذي يجري مجرى الفعل: وذلك كالقضايا المعينة، مثل حديث أبي رافع رضي الله عنه قال: "قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة للجار [النسائي]. فهذا لا يعم كل جار لاحتمال الخصوصية في ذلك الجار والراوي نقل صيغة العموم لظنه عموم الحكم، هكذا مثل شراح الورقات وهو رأي أكثر الأصوليين. الخاص: لما فرغ من العام ذكر الخاص لأن العام يدخله التخصيص ولأن العام قد يطلق ويراد به الخاص. تعريف الخاص: أولاً: لغة: الخاص لغة يدل على الانفراد وقطع الاشتراك، يقال: خص فلان بكذا، أي: تفرد به فلم يشاركه فيه غيره، والخاصة ضد العامة. ثانياً: اصطلاحاً: بما أن الخاص يقابل العام فيؤخذ حده من حد العام، ولذا فإن الناظم لما عرَّف العام بقوله: وَحَــدُّهُ لَفْـظٌ يَعُـمُّ أَكْثَـرَا *** مِنْ وَاحِــدٍ مِنْ غَيْرِ مَـا حَصْرٍ يُرَى عرف الخاص بقوله: وَالخَـاصُ لَفْــظٌ لَا يَعُـمُّ أَكْثَرَا *** مِنْ وَاحِــدٍ أَوْ عَمَّ مَعْ حَصْرٍ جَرَى أي أن الخاص: لفظ يتناول دفعة أكثر من واحد أو عم أكثر من واحد مع الحصر. وعلى هذا فإن الخاص هو: اللفظ الدال على محصور: فهو بهذا يقابل تعريف العام الذي هو اللفظ الشامل لجميع أفراده بلا حصر، ومن هذا التعريف للخاص نعلم أنه يدخل فيه ما لا يتناول أكثر من واحد نحو رجل، وما يتناول شيئين فقط نحو: رجلين، وما يتناول أكثر مع الحصر نحو: ثلاثة رجال، وألف "أكثرا" في البيت للإطلاق ولفظ "جرى" كما علم من الحد تكملة. دلالة الخاص على الحصر المذكور في الحد: [انظر شرح الورقات لعبدالله بن صالح الفوزان ص76]. الخاص يدل على الحصر إما بشخص كالأعلام مثل جاء محمد. أو الإشارة نحو: هذا مخلص في عمله. وبعدد: كأسماء الأعداد نحو: عندي عشرون كتاباً. تعريف التخصيص: ثم انتقل الناظم إلى تعريف التخصيص لأن الخص قد تكون أخصيته بالتخصيص من العام، فقال: وَالقَصْدُ بِالتَّخْصِيْصِ حَيْثُمَـا حَصَلْ *** تَمْيِـيْزُ بَعْضِ جُمْلَـةٍ فِيهَـا دَخَـلْ يعني أن المراد بالتخصيص إذا حصل فهو لا تمييز بعض الجملة التي دخل فيها هذا البعض بالإخراج، فالضمير في "دخل" في البيت يعود على بعض، وهذا التعريف هو معنى قول الأصل "والتخصيص تمييز بعض الجملة" أي إخراج بعض الجملة التي يتناولها اللفظ العام. مثاله: كإخراج المعاهدين من حكم المشركين في قوله تعالى: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [التوبة:5]، {إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} [التوبة:4]، فقد ميَّز المعاهدين عن جملة المشركين في الحكم. شرح ألفاظ التعريف: قوله: "تمييز بعض الجملة": أي إخراج البعض عن الحكم الوارد على العام لدلالة دليل عليه. وقوله: "بعض": احتراز عن الكل فإنه نسخ. وقوله: "جملة": يشمل العام المعرَّف بما قد سبق، ويشمل غيره من كل شامل لمتعدد لفظاً أو معنى ولو مع حصر كالاستثناء من العدد فإنه تخصيص كما سيأتي، ونلاحظ أن العدد هنا خاص وليس عاماً، ولكنه داخل في التعريف وذلك لشموله لمتعدد إذ ليس المراد من قوله: "جملة" العام بالمعنى الاصطلاحي الذي مر فقط بل تشمله وغيره من كل شامل لمتعدد ولو مع حصر. تنبيه: العام إذا دخله التخصيص يسمى العام المخصوص أو المخصَّص. والدليل الذي جعل به الإخراج يسمى" المخصَّص" بزنة اسم الفاعل وهو المراد عند الأصوليين لأن المخصص يطلق أيضاً على فاعل التخصيص وهو الشارع" [انظر شرح الورقات للفوزان ص77]. أقسام المخصَّصات: قال الناظم: وَ مَا بِـهِ التَّخْصِيْصُ إِمَّــا مُتَّصِلْ *** كَمَــا سَيَـأتِي آنِفًــا أَوْ مُنْفَصِلْ فَالشَّرْطُ وَالتَّقْيِيدُ بِالوَصْفِ اتَّصَـلْ *** كَـذَاكَ الِاسْتِثْنَـاء وَغَيـرُهَا انْفَصَـلْ والمعنى: أن الذي يحصل به التخصيص ينقسم إلى قسمين متصل ومنفصل وقوله "كَمَــا سَيَـأتِي آنِفًــا" أي قريباً. تعريف المتصل: هو ما لا يستقل بنفسه بل يكون مذكوراً مع العام في نص واحد. كقوله تعالى: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران:97]، فقوله: "من استطاع" بدل من الناس فيكون واجباً خاصاً بالمستطيع، وقوله صلى الله عليه وسلم عن ربه: «كل عمل ابن آدم له إلا الصوم...» [البخاري ومسلم]. أما المنفصل فهو: ما يستقل بنفسه ولا يكون مذكوراً مع العام بل يكون مفرداً، بأن يكون العام في نص والمخصص في نص آخر. كقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11]، خُصَّ بقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم» [البخاري ومسلم]. أنواع المخصص المتصل: وبين الناظم أنواع المتصل بقوله: فَالشَّرْطُ وَالتَّقْيِيدُ بِالوَصْفِ اتَّصَـلْ *** كَـذَاكَ الِاسْتِثْنَـاء ......... أي أن أنواع المتصل الشرط والتقييد بالوصف ومثلهما الاستثناء فعلم أن المخصص المتصل ثلاثة أنواع على ما ذكره الناظم تبعاً للأصل حدها الشرط نحو "أكرم الفقراء إن زهدوا" وثانيها التقييد بالصفة نحو: "أكرم بني تميم الفقهاء" وثالثها الاستثناء نحو: "جاء الفقهاء إلا زيداً" ويزاد رابعاً وهو الغاية وخامساً هو بدل البعض من الكل وستأتي إن شاء الله. وقول الناظم: "وَغَيـرُهَا انْفَصَـلْ": أي وغير هذه الثلاثة انفصل، يعني المنفصل. الاستثناء: ولما ذكر الناظم الاستثناء أراد أن يبين حده وشرطه وجوازه فقال: وَحَـدُّ الِاسْتِثْنَـاءِ مَـا بِـهِ خَرَجْ *** مِنَ الكَـلَامِ بَعْضُ مَـا فِيـهِ انْـدَرَجْ وَ شَرْطُــهُ أَنْ لَّا يُرَى مُنْفَصِـلَا *** وَلمَ ْيَكُـنْ مُسْتَغْرِقًــا لِمَـا خَـلَا وَالنُّطْقُ مَعْ إِسْمَــاعِ مَنْ بِقُرْبِـهِ *** وَقَصْــدُهُ مِنْ قَبْـلِ نُطْقِـهِ بِــهِ وَالأَصْـلُ فِيــهِ أَنَّ مُسْتَثْنَــاهُ ***مِنْ جِنْسِــهِ وَ جَــازَ مِنْ سِـوَاهُ وَجَــازَ أَنْ يُقَــدَّمَ الْمُسْتَثْـنَى*** وَالشَّرْطُ أَيضًــا لِظُهُــورِ الْمَعْنَى وهذا هو النوع الأول من المخصص المتصل: وهو الاستثناء: وهو لغة: مأخوذ من الثني أي العطف والصرف، تقول: ثنيت الحبل أثنيه إذا عطفت بعضه على بعض، وتقول ثنيته عن الشيء إذا صرفته عنه. واصطلاحاً: ما ذكره بقوله: وَحَـدُّ الِاسْتِثْنَـاءِ مَـا بِـهِ خَرَجْ *** مِنَ الكَـلَامِ بَعْضُ مَـا فِيـهِ انْـدَرَجْ بمعنى أن تعريف الاستثناء هو: الاخراج من متعدد – ولو محصوراً – بإلا أو إحدى أخواتها من الكلام السابق بعض ما اندرج في حكمه ولولا الإخراج لاندرج في الكلام السابق وهو المستثنى منه. ومثال ذلك: "جاء القوم إلا زيداً" وهذا يسمى استثناء متصل. فلولا إخراج زيد من القوم لدخل في مجيئهم، ومثاله من النصوص قوله صلى الله عليه وسلم: «الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً حرم حلالاً أو أحل حراماً والمسلمون على شروطهم إلا شرطاً حرم حلالاً أو أحل حراماً». تنبيه: زيادة إلا وإحدى أخواتها في الحد زيادة لابد منها وذلك لإخراج المخصصات المتصلة الأخرى كالشرط والصفة لأن تعريف الناظم يصدق عليها أو يصدق على كل منهما أنه إخراج ما لولاه لدخل في الكلام لكن الأول بأن الشرطية أو إحدى أخواتها والثاني بالصفة كما يخرج بذلك أيضاً نحو "استثني زيداً" ولا يسمى استثناء في الأصح وسكت الناظم عن هذه الزيادة تبعاً لصاحب الأصل ولعلَّ سكوت صاحب الأصل عنها لظهرها والله أعلم. أنواع الاستثناء: الاستثناء نوعان: متصل: وهو ما يكون فيه المستثنى بعض المستثنى منه. ومنقطع: وهو: ما لا يكون فيه المستثنى بعض المستثنى منه. نحو قام القوم إلا حماراً. وهذا ليس من المخصصات عند بعضهم وقد ذكره الناظم استطراداً في قوله: "وجاز من سواه" إذ هو يرى أنه من المخصصات وسيأتي: شروط الاستثناء: ذكر الناظم لصحة الاستثناء عدة شروط وهي كالتالي: 1- أن يكون الاستثناء متصلاً بالكلام إما حقيقة أو حكماً: قال الناظم: وَ شَرْطُــهُ أَنْ لَّا يُرَى مُنْفَصِـلَا أي وشرط صحة الاستثناء أن لا يرى منفصلاً عن الكلام المستثنى منه بل شرطه أن يكون متصلاً به حقيقة أو ما هو في حكم الاتصال. فالأول: أن يكون المستثنى عقب المستثنى منه مباشرة بأن يقول: اعتق عبيدي إلا سعيداً، أكرم الطلاب إلا من أكثر الغياب. قلت: أكرم الطلاب، وبعد ساعة قلت: إلا من أكثر الغياب، فالكلام الأخير لا يعد مخصصاً لذلك العام، وإلا جعلته متصلاً به لأن الاستثناء لا يكون مخصصاً إلا مع الاتصال. والثاني: أن يحصل فاصل اضطراري كالعطاس والسعال أو سكتة تنفس أو تعب أو طول الكلام المستثنى منه ونحو ذلك مما لا يعد فصلاً عادة وعرفاً. فلو انفصل عنه كما لو قلت: أكرم الطلاب....الخ الكلام المذكور أعلاه – وينقل هنا-. وقيل: يصح الاستثناء مع السكوت أو الفاصل إذا كان الكلام واحداً واستدل هؤلاء بحديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة: «إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض لا يعضد شوكه ولا يختلى خلاه» فقال العباس: يا رسول الله: إلا الاذخر فإنه لقينهم وبيوتهم فقال: «إلا الاذخر» [متفق عليه]، وهذا قول وجيه لقوة دليله كما ترى. 2- أن يبقى من المستثنى منه شيء: قال الناظم: .............................. *** وَلمَ ْيَكُـنْ مُسْتَغْرِقًــا لِمَـا خَـلَا أي وشرط صحة الاستثناء أن لا يكون مستغرقاً لما "خلا" أي لما مضى قبل المستثنى وهو المستثنى منه، وذلك بأن يبقى بعد الاستثناء من المستثنى منه شيء وغن قل كالنصف أو دونه أو أكثر. مثال ذلك: "دلَّه عليَّ عشرة إلا خمسة"، "له عليَّ عشرة إلا ثلاثة"، " له عليَّ عشرة إلا تسعة". فيلزمه على الأول خمسة وعلى الثاني سبعة وعلى الثالث واحد. هذا ما جرى عليه الناظم وصاحب الأصل. إلا أن استثناء الأكثر أن يقول: "له عليَّ عشرة إلا تسعة" ففيه قوم منهم الإمام أحمد وأصحابه وهو قول للشافعي [انظر الإرشاد للشوكاني ص149 وانظر الفوزان ص80]. ومن حججهم في ذلك: أنه قد جرت العادة في لغة العرب استثناء الأقل لا الأكثر فالاستثناء السابق لا يصح. ولذا يرى بعضهم أن الاستثناء يصح إلى حد الثلث وبعضهم يقول لا بل إلى النصف فإذا زاد المستثنى عن المستثنى منه خرجنا بالاستثناء عن أصل الوضع له لغة. وأكثر الأصوليين على جواز استثناء الأكثر منهم الناظم وصاحب الأصل وكذلك هناك خلاف في صحة استثناء النصف والصحيح الجواز كما مرَّ تمثيله وهو قول الجمهور من الشافعية والمالكية والراجح عند الحنابلة" [انظر الفوزان ص81]. وأما إذا استغرق الاستثناء المستثنى منه بأن لم يبق منه شيء كما لو قال "عليَّ عشرة إلا عشرة" بطل الاستثناء بالإجماع كما نقله الرازي في المحصول وابن الحاجب في مختصر المنتهى إلا في قول شاذ. وإذا بطل الاستثناء لزمته العشرة كلها، نعم إن أتبعه باستثناء آخر صحَّ كقوله: "عليَّ عشرة إلا عشرة إلا خمسة" فنلزمه خمسة، وكأنه قال: "عليَّ عشرة إلا عشرة ناقصة خمسة وهي بمعنى إلا خمسة. وهذا الخلاف الذي ذكرناه إنما هو بما إذا كان الاستثناء من العدد [انظر الفوزان ص81]. 3- التلفظ بالاستثناء مع إسماع من بقربه: قال الناظم: وَالنُّطْقُ مَعْ إِسْمَــاعِ مَنْ بِقُرْبِـهِ *** .......................... أو شرط صحة دعوة الاستثناء التلفظ به مع إسماع من بقربه. 4- نيَّة الشخص قبل نطقه بالاستثناء: قال الناظم: ................................*** وَقَصْــدُهُ مِنْ قَبْـلِ نُطْقِـهِ بِــهِ أي وشرط صحة الاستثناء نيته من قبل نطق الشخص بالاستثناء. قال في لطائف الإشارات، قال شيخ الإسلام: وهذا الشرط متفق عليه عند القائلين باشتراط اتصاله فلو لم يُنوَ الاستثناء إلا بعد فراغ المستثنى منه لم يصح، وعليه لا يشترط وجود النية من أوله بل يكفي وجودها قبل فراغه على الأصح. وما في هذا البيت أعني: "والنطق مع إسماع..." من زيادة الناظم على الأصل. 5- بأن يكون المستثنى من جنس المستثنى منه قال الناظم: وَالأَصْـلُ فِيــهِ أَنَّ مُسْتَثْنَــاهُ *** مِنْ جِنْسِــهِ وَ جَــازَ مِنْ سِـوَاهُ ويظهر من كلام الناظم أنه لا يشترط هذا الشرط بل يرى جواز أن يكون المستثنى من غير جنس المستثنى منه، وقد اشترطه قوم وقالوا لعدم صحة الاستثناء المنقطع، وتوجيه هذا القول: أن الاستثناء إخراج بعض ما دخل في المستثنى منه، وغير جنسه لم يدخل حتى يحتاج إلى إخراج. معنى البيت: أن الأصل في المستثنى أن يكون من جنس المستثنى منه ويجوز الاستثناء من سواه وهو غير جنسه. فيجوز الاستثناء كما قال من جنس مما هو بعضه وهو المتصل نحو: "قام القوم إلا زيداً" كما تقدم، ومن غيره وهو المنقطع نحو: "جاء القوم إلا حماراً" فالاستثناء المنقطع يخصِّص أيضاً لأن المستثنى فيه وإن يكن داخلاً في المستثنى منه بطريق النطق لكنه داخل فيه بطريق المفهوم، فيتحقق إخراج الحمير من نحو: "جاء القوم إلا الحمير" لأنه يفهم عرفاً مجيء ما يتعلق بالقوم أيضاً فكأنه قيل "جاء القوم وجاء من يتعلق بهم أيضاً إلا الحمير" وعلى هذا يتوقف التخصيص بلا شبهة. وعلى هذا فنحو "له عليَّ ألف درهم إلا ثوباً" يصح فيه الاستثناء ويلزمه ألف ناقص قيمة الثوب، نرجع في بيان قيمته إليه. هذا تويه وهناك توجيه آخر وهو ورود هذا الاستثناء في القرآن وفي كلام العرب. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ} [النساء:29]. ووجه الاستدلال أن في الآية استثناء منقطع: هو أن التجارة ليست من الأموال المأكولة بالباطل، ولأن الاستثناء وقع على المصدر المؤول "أن تكون" وهو الكون، والكون معنى لا مادة. ومثلها قوله تعالى: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا} [مريم:62]. فقد استثنى السلم من اللغو وهو ليس منه. وقال الراجز: وبلدة ليس فيها أنيس *** إلا اليعافير وإلا العيس واليعافير: هي أولاد الوحش، والعيس: هي الإبل البيض يخالط بياضها شيء من الشقرة ليس واحد منهما من جنس الأنيس. فالقول بالجواز هو الصحيح لقوة مأخذه، وهو قول أكثر الأصوليين، فهو قول أكثر الشافعية والمالكية وبعض الحنابلة. وأما الصحيح من الروايتين عند الإمام أحمد رحمه الله فهو القول بالمنع واختاره الغزالي كما في المنحول ص159 وقال الآمدي 2/313: وضع منه الأكثرون. وعلى هذا القول الأخير فقوله: "له عليَّ ألف إلا ثوباً" لا يصح هذا الاستثناء وتلزمه الألف كاملة، جاء في مختصر الحزقي ص74: "ومن أقر بشيء واستثنى من غير جنسه كان استثناؤه باطلاً" [انظر شرح الورقات للفوزان ص83]. مسألة: جواز تقديم المستثنى على المستثنى منه: قال الناظم: وَجَــازَ أَنْ يُقَــدَّمَ الْمُسْتَثْـنَى *** وَالشَّرْطُ أَيضًــا لِظُهُــورِ الْمَعْنَى ما ذكره الناظم عن الشرط هنا هو أنه كما يجوز تقديم المستثنى على المستثنى منه كذلك يجوز أن يقدم في اللفظ الشرط المخصَّص على المشروط وذلك لظهور المعنى، نحو: "إن جاؤوك بني تميم فأكرمهم". ويجوز أن يتأخر نحو: "أنت طالق إن دخلت الدار" وهو الأصل. وأما الشرط الوجودي فيجب أن يتقدَّم على المشروط كما إذا قال لها: "إن دخلت الدار فأنت طالق" فلابد من وجود دخول الدار حتى يقع الطلاق هنا. المراد بالشرط: المراد بالشرط هنا الشرط اللغوي فهو المخصص للعموم، وأما الشرط الشرعي الذي يذكر في الأحكام الوضعية والشرط العقلي وهو ما لا يمكن المشروط في العقل بدونه كالحياة للعلم فلا تخصيص بهما. تعريف الشرط: هو تعليق شيء الشيء بإن الشرطية أو إحدى أخواتها. مثل: "إن زرتني أكرمتك" ففيه تعليق الإكرام بالزيارة بإن، فإن وجبت الزيارة وهو لإكرام، والشرط المخصص يجوز أن يتأخر عن المشروط كما سبق بيانه كقوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ} [النساء:12]. ويجوز أن يتقدم على المشروط كقوله تعالى: {وَإِن كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:6]. وهذا النوع من الشرط هو الذي يذكره الفقهاء في الطلاق والعتق ونحوهما فيقولون: "العتق معلق على شرط، والطلاق معلق على شرط" [شرح الورقات للفوزان ص84]. ثالثاً: الصفة: المراد بالصفة المخصصة للعام الصفة المعنوية لا مجرد النعت المذكور في علم النحو. وهي: ما أشعر بمعنى يتصف به بعض أفراد العام من نعت أو بدل أو حال فمثال النعت: قوله صلى الله عليه وسلم: «من باع نخلاً مؤبراً فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع» [بخ وأصحاب السنن] فقوله "مؤبراً" صفة للنخل، ومفهومها أن النخل إن لم يؤبر فثمرها للمشتري. ومثال البدل: قوله تعالى: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران:97]. ومثال الحال: قوله تعالى في جزاء الصيد: {وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة:95]. فقوله: "متعمداً" حل من المضمر المرفوع في "قتله" وهو يدل على أن الجزاء خاص بالعامد [شرح الورقات للفوزان ص85-86 بتصرف يسير]. <span dir="RTL" style="font-size:14.0pt;line-height:115%;font-family: "Simplified Arabic","serif";mso-fareast-font-family:Calibri;mso-fareast-theme-font: minor-latin;mso-ansi-language:EN-US;mso-fareast-language:EN-US;mso-bidi-language: AR-SA" lang="AR-SA"> رابعاً: الغاية: هذا القسم من أقسام المخصص المتصل لم يذكرها الناظم. والغاية: هي طرف الشيء ومنتهاه، وحكم ما بعدها مخالف لما قبلها، قاله الشافعي والجمهور. ومثاله: قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ} [البقرة:187]. فما بعد حرف "إلى" ليس داخلاً فيما قبله بل محكوم عليه بنقيض حكمه واختار الأموي أن التغيير بالغاية لابد على شيء ولعل صاحب الأصل يرى ذلك فلذا تركه فتبعه الناظم. خامساً: بدل البعض من الكل وهذا لم يذكره الناظم، نحو: "أكر الناس قريشاً" ذكره بالخاص. وبعضهم يدرج هذا القسم في المخصص بالصفة كما سبق ذكر فيه. المطلق والمقيد لما كان المطلق عاماً عموماً بدلياً والمقيد أخص منه كان تعارضهما من باب تعارض الخاص والعام مشابها لهما كما هو ظاهر فلذا جمعهما معها في مبحثها وذكرهما أثناء الكلام عليهما حيث قال: وَيُحْمَـلُ الْمُطْـلَقُ مَهْمَـا وُجِدَا *** عَلَى الَّـذِي بِالوَصْفِ مِنْـــهُ قُيِّدَا فَمُطْلَقُ التَّحْـرِيـرِ فِي الأَيمَــانِ *** مُقَيَّــدٌ فِي القَتْــلِ بِالِإيمَـــانِ فَيُحْمَلُ الْمُطْـلَقُ فِي التَّحْـرِيـرِ *** عَلَى الَّـذِي قُيِّــدَ فِي التَّكْفِيــرِ ذكر الناظم في هذه الأبيات مسألة حمل المطلق على المقيَّد ولم يحد المطلق والمقيَّد ويبيِّن الفرق بينهما وبين العام والخاص، إذ الفرق بينهما مما يحاد فيه كثير من طلاب العلم، لذا آثرنا أن نتكلم أولاً عن هذه الأمور ثم نعرِّج على ذكر حكم المطلق والمقيد وما ذكره الناظم. تعريف المطلق: أولاً تعريفه لغة: فهو مأخوذ من الإطلاق وهو الانفكاك من القيد. ثانياً اصطلاحاً: اختلفت عبارات الأصوليين في تعريفه ولكنها تدل على معنى واحد، فمنها: 1- "ما تناول واحداً غير معيَّن باعتبار حقيقة شاملة لجنسه" [تيسير الأصول ص90، انظر روضة الناظر ومذكرة الشنقيطي ص277]. 2- "ما يتعرض للذات دون الصفات لا بالنفي ولا بالإثبات" [تيسير الأصول ص90 حافظ ثناء الله الزاهدي]. 3- المطلق: ما دل على فرد شائع في جنسه غير محدد شيوعه بقيد لفظي" [الواضح ص160]. ومعنى فرد شائع في جنسه، أي أنه غير محدد بواحد بعينه، بل يحتمل هذا ويحتمل هذا، فإذا قلت أكرم رجلاً، فإن لفظة "رجلاً" فرد شائع في جنسه لا يتناول رجلاً معيناً، كما أنه لا يتناول جميع الرجال أي أنه لا يعم كل ما يصدق عليه لفظة رجل، فإذا أكرمت هذا الرجل، أو هذا الرجل، أو هذا الرجل فإنك تكون قد نفذت الأمر، فإذا أكرمت جميع الرجال فإنك تكون حينئذ مخالف للنص، لأن النص إنما أمرك بإكرام واحد غير معين ولم يأمرك بإكرام الجميع. 4- "ما دل على الحقيقة بلا قيد" [شرح الورقات للفوزان ص86]. ومعنى دلالته على الحقيقة: أنه شائع في جنسه لا يتناول إلا فرداً واحداً من أفراد الحقيقة بدون زيادة، مثل: فتحرير رقبة، وأكرم طالباً. 5- "هو ما دل على فرد أو أفراد على سبيل الشيوع ولم يقيد بقيد يقلل شيوعه كرجال، ورجال، ورقبة وعراقي... وغير هذه من الألفاظ الدالة على ما وضعت له على سبيل الشيوع ولم تقيد بوصف أو شرط أو زمان أو مكان أو غير ذلك". ويخرج بقولنا: فرد أو أفراد على سبيل الشيوع: أسماء الأعداد التي تدل على كثير محصور، والمعارف كمحمد وأحمد لعدم الشيوع [أصول الفقه أحمد محمود الشافعي ص32]. تعريف المقيد: هو لغة: ما وضع فيه قيد من إنسان أو حيوان. واصطلاحاً: 1- "ما تناول معيَّناً أو غير معين موصوف بأمر زائد على حقيقة جنسه". 2- "هو ما دل على فرد أو أفراد شائعة، وقيد بقيد يقلل شيوعه، مثل: رجل عربي وطالب مجد، وشاب ورع، كل لفظ ورد مقيد الوصف زائد على حقيقة اللفظ ويقلل شيوعه، فالرجل مثلاً يدل على الذكر البالغ من بني آدم في كل الدنيا ووصفه بعربي قلل شيوعه في جنسه، فالمقيد هو في الأصل مطلق ولكن لحقه قيد أخرجه عن الإطلاق إلى التقييد. 3- "ما دل على الحقيقة بقيد". ومعنى ذلك: أن المقيد يدل على الحقيقة كالمطلق، ولكنه يتناول معيناً بسبب وصف زائد نحو: {فتحرير رقبة مؤمنة} وأكرم طالباً مهذباً. الفرق بين العام والمطلق: الفرق بين العام والمطلق أن عموم العام شمولي، بمعنى أن العام يدل على شمول كل فرد من أفراده. وعموم المطلق بدلي: أي يدل على فرد شائع أو أفراد شائعة – أي يحتمل هذا أو هذا أو هذا لا على جميع الأفراد. فالعام يتناول دفعة واحدة كل ما يصدق عليه من الأفراد. والمطلق لا يتناول دفعة واحدة إلا فرداً شائعاً من الأفراد. ومعنى هذا: أن العام: يشمل متعددات دفعة واحدة. والمطلق: لا يتناول إلا شيئاً واحداً شائعاً غير محدد في جنسه. ومدلول العام: أفراد مختلفة الأجناس. ومدلول المطلق: جنس واحد ولكن تختلف أنواعه في أفراده ولا تتعدى هذا الجنس "فرقبة" هي الإنسان المملوك لا تتعدى هذا الجنس، فلا تتعدى – أي لا تشمل – لبعير ولا الشاة ولا كذا. وأما العام فيشمل أجناساً متعددة فمثلاً قوله صلى الله عليه وسلم: «فيما سقت السماء العشر» فـ "ما" لفظة عامة تشمل جميع أنواع النبات فتشمل التفاح، الموز، العنب، النخل، الحبوب، التمر...الخ. وأبرز مثال يميز لنا بين العام والخاص وبين المطلق والمقيد: قوله صلى الله عليه وسلم: «فيما سقت السماء العشر». فما هنا موصولة عامة. فالسماء تسقي الزرع وهو جميع أنواع النبات. وجاء التخصيص هنا فيما يتعلق بالحبوب وما يتعلق بالادخار وما يتعلق بالتوسيق وهو الكيل، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة». والسماء تسقي الوسق الواحد وربع الوسق وهي تسقي الموسق وغير الموسق، فالبرسيم لا يوسق، والبامية لا توسق، والتفاح لا يوسق والذي يوسق هو الحبوب والتمور والزبيب. إذا "فما" عامة في الجميع، وخصصت فيما هو موسَّق إلى قدر خمسة أوسق، فخرج بذلك أيضاً ما هو موسق بأقل من خمسة أوسق والموسَّق أخرج ما لا يسق مما لا يكال، إذن فالتخصيص هنا جاء بأمرين بالموسق، وبمقدار خمسة أوسق. وهذا واضح في أنه عموم وخصوص. أما المطلق والمقيد: فهو ما لا يميز في أفراده إلا بالصفة. فجاء النص في تحرير الرقبة في الظهار، "رقبة" وأطلق وجاء في كفارة القتل "تحرير رقبة مؤمنة". والرقبة من حيث هي لا تشمل متعددات مثل ما شملته «ما سقت السماء العشر» بل الرقبة: يعني إنسان مملوك، لكن تحت هذه الرقبة ذكر أنثى كبير، كبير صغير، مجنون عاقل، مؤمن كافر، وهذه الأوصاف التي احتملتها الرقبة ليست هي أنواعاً متفاوتة بل هي رقبة واحدة اختلفت صفاتها من إيمان وكفر وذكورة وأنوثة وكبير وصغير...الخ، وهي أمور عوارض. فنقول: سواءاً كانت مؤمنة فهي رقبة أو كافرة فهي رقبة، أول كبيرة فهي رقبة، أو صغيرة فهي رقبة، أو عاملة فهي رقبة...الخ، لكن «فيما سقت السماء» تشمل نخلة، عنبة، تفاحة، نعناع، شعير، بر، إذاً اختلفت بأجناسها إذاً هناك عام وخاص، وهنا رقبة مطلقة في صفاتها تصدق على أيِّ فرد من أفراد الرقاب، ولكن جاء النص الثاني وقيَّدها بصفة من صفاتها هي صفة الإيمان، إذاً فالرقبة المطلقة قيدت بوصف واحد وألغيت كل الصفات، فإذا وجد الإيمان في الرقبة أجزأت فإذ قلت هذه ذكر أو أنثى أو كبيرة أو صغيرة نقول: هذه الصفات ألغيت. إذن {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء:92]، مطلق، ووصفها بالإيمان: هذا مقيد. إذن فالفرق الوحيد والمقياس الذي يمكن أن نخرج منه من ورطة الاشتراك أن نقول: إن مدلول العام: أفراد مختلفة الأجناس. والمطلق: جنس واحد ولكن تختلف أنواعه في أفراده، ولا تتعدى هذا الجنس مهما اختلفت صفاتها فرقبة مهما وصفتها بالإيان أو الكفر أو الذكورة أو الأنوثة...الخ، فلا تخرج عن كونها رقبة وهي الإنسان المملوك فلا تتعدى غير جنسها فلا تتعدى مثلاً البعير والشاة والخيل...الخ، لكن بخلاف «فيما سقت السماء العشر» فما عامة تتعدى أجناساً مختلفة فتمثل: الحبوب، التمور، الزبيب، التفاح، البرسيم، النعناع...الخ وكلها كما ترى أجناساً مختلفة "لا جنس واحد اختلفت صفاته". ثانياً: من الفروق بين العام والمطلق: العام يدخله الاستثناء والمطلق لا يدخله. حكم المطلق والمقيد: اللفظ المطلق يبقى على إطلاقه إذ ما أطلقه الشارع فليس لأحد تقييده ما لم يقم دليل على تقييده وحينئذ يخرج من الإطلاق ويصير من المقيد. انظر رسالة شيخ الإسلام بن تيمية قرر فيها ذلك في مجموع الفتاوى 19/235. وأما حكم المقيد: فإن المقيد يظل باقياً على تقييده ما لم يقم دليل على إطلاقه فلا يجوز إلغاء قيده إلا إذا دل دليل على إلغائه [أصول الفقه الإسلامي لأحمد محمود الشافعي ص323]. من أمثلة المطلق الذي لم يرد تقييده: 1- لفظ "أيام" في قوله تعالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184]، فقد جاء مطلقاً ولم يقيد بالتتابع ولم يرد في نص آخر مقيد بالتتابع فيعمل به إذن على إطلاقه. 2- لفظ "أزواجاً" في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة:234]. فلفظ أزواجاً في الآية مطلق من التقييد بالدخول أو عدمه، كما لم يدل دليل على تقييده ولذلك يعمل به على إطلاقه. ومن أمثلة المقيد الذي لم يلغَ قيده بدليل: ما جاء في كفارة الظهار في قوله: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [النساء:92]، فهذه الآية قيدت صوم الشهرين بأن يكون الصوم متتابعاً بلا انقطاع فلا يجزئ الصوم المنقطع في كفارة الظهار عملاً بالقيد الذي قيدته به كلمة "متتابعين" ولم يأت دليل آخر لا في الكتاب ولا السنة يخرج هذا اللفظ المقيد "شهرين متتابعين" إلى الإطلاق حتى يقبل في هذه الكفارة الصوم المنقطع. حمل المطلق على المقيد: قد يرد اللفظ مطلقاً في نص، ويرد مقيداً في نص آخر، فهل يحمل المطلق على المقيد ويكن المراد به المقيد؟ أم يعمل بالمطلق على إطلاقه وبالقيد على تقييده؟ هذه المسألة هي التي ذكرها الناظم في كلامه على المطلق والمقيد، فقال: وَيُحْمَـلُ الْمُطْـلَقُ مَهْمَـا وُجِدَا *** عَلَى الَّـذِي بِالوَصْفِ مِنْـــهُ قُيِّدَا فَمُطْلَقُ التَّحْـرِيـرِ فِي الأَيمَــانِ *** مُقَيَّــدٌ فِي القَتْــلِ بِالِإيمَـــانِ فَيُحْمَلُ الْمُطْـلَقُ فِي التَّحْـرِيـرِ *** عَلَى الَّـذِي قُيِّــدَ فِي التَّكْفِيــرِ يعني أنه يحمل المطلق على المقيد بالصفة مهما وجد المطلق مهما وجد المطلق في صورة يمكن حمله فيها على المقيد كآيتي الظهار والقتل، وقولنا "على المقيد بالصفة" هو مراد الناظم بقوله: " عَلَى الَّـذِي بِالوَصْفِ مِنْـــهُ قُيِّدَا" فالألف: للإطلاق كألف وجدا قبله، ولفظ "منه" في كلامه تكملة. وقوله "فَمُطْلَقُ التَّحْـرِيـرِ فِي الأَيمَــانِ..... أي أن مطلق عتق الرقبة في كفارة الأيمان – بفتح الهمزة جمع يمين وهو الحلف – مفيد في كفارة القتل بالإيمان – بكسر الهمزة – وهو لفظ "مؤمنة" كما سيأتي. مثال كفارة الأيمان قوله تعالى: {وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة:89]، فالرقبة هنا مطلقة مثل كفارة الظهار المذكورة في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة:3]. ومثال كفارة القتل المقيد بمؤمنة قوله تعالى: {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} [النساء:92]. إذا علمت ذلك: فيحمل المطلق في "عتق الرقبة" على المقيد "بمؤمنة" في التكفير، بحيث أن المكفِّر عن يمينه أو المكفر في الظهار إذا أعتق رقبة كافرة فإنها لا تجزئه، لأن المطلق في هاتين الكفارتين محمول على المقيد في كفارة القتل. وهذه المسألة وهي حمل المطلق على المقيد في حالة واحدة هي: أن يتحد الحكم والسبب والإطلاق والتقييد في الحكم في السبب: ومثال ذلك قول الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة:3]، وقوله تعالى: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا} [الأنعام:145]، فالحكم كما نرى في الآيتين واحد وهو تحريم الدم والسبب واحد وهو الضرر الذي يصيب الإنسان من تناوله، غير أن الدم ذكر في الآية الأولى مطلقاً وذكر في الآية الثانية مقيداً بكونه مسفوحاً وبناءً على ذلك فإن المطلق يحمل على المقيد – باتفاق الفقهاء – فلا يحرم إلا الدم المسفوح أما الكبد والطحال فلا يشملهما التحريم لأنهما دم غير مسفوح. ومثال آخر: قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «وفي خمس من الإبل شاة» وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «وفي خمس من الإبل السائمة شاة» فلفظ الإبل في النص الأول مطلق وفي النص الثاني مقيد بالسائمة، فلا يعمل بالمطلق على إطلاقه بل يحمل على المقيد لاتحادهما في الحكم والسبب ويكون نصاب الزكاة في الإبل خمس من الإبل السائمة. ثانياً: اتفق الفقهاء على عدم حمل المطلق على المقيد في حالة واحدة هي: أن يختلف الحكم في النصين ويختلف السبب فيهما: ومثال ذلك قول الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38]. وقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة:6]. فلفظ الأيدي جاء مطلقاً عن القيد "إلى المرافق" في الآية الأولى مقيد بهذا القيد في الآية الثانية. والحكم في الآيتين مختلف، فهو في الأولى وجب القطع، وفي الثانية وجوب غسل اليدين إلى المرفقين في الوضوء. والسبب مختلف في كل منهما: إذ السبب في حكم الآية الأولى: السرقة. والسبب في حكم الآية الثانية: التطهر للصلاة. فلهذا الاختلاف لم يحمل المطلق على المقيد لعدم الارتباط بينهما فيعمل بكل نص في موضعه. ومعلوم أن قطع اليدين من الرسغين قد ورد في السنة لما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقطع يد السارق من الرسغين. ثالثاً: اختلف الفقهاء في أحوال عدة منها: 1- أن يختلف الحكم في النصين ويتحد السبب فيهما: ومثاله قول الله تعالى في شأن الوضوء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ}. وقوله تعالى في شأن التيمم: {فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ} [المائدة:6]. فالحكم في النصين مختلف إذ هو وجوب غسل الأيدي في الوضوء، ووجوب المسح عند التيمم، وقيد الغسل بكونه إلى المرافق وأطلق المسح. والسبب في الحكمين متحد وهو التطهر عند إرادة الصلاة. وقد اتفق أكثر الفقهاء هنا على عدم حمل على المقيد إلا بدليل فأبقوا المطلق على إطلاقه والمقيد على تقييده. وظاهر الرواية عند الحنفية حمل المطلق على المقيد ووجوب مسح اليدين إلى المرفقين وهو مذهب الشافعية، خلافاً للمالكية والحنابلة لعدم صحة الحديث عندهم لذلك عملوا بحديث عمار بن ياسر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له: «يكفيك ضربة للوجه وضربة للكفين». 2- أن يتحد الحكم في النصين ويختلف السبب فيهما، والاطلاق والتقييد في الحكم، وذلك كما نرى في الآيتين الآتيتين: قال تعالى: {{وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا} [المجادلة:3]. وقال تعالى: {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} [النساء:92]. فالنص الثاني السبب: القتل الخطأ، والنص الأول السبب فيه هو الحنث في اليمين في الظهار، والإطلاق والتقييد في الحكم وهو: تحرير الرقبة. والحكم واحد فيهما وهو تحرير رقبة، وقد قيدت الرقبة بكونها مؤمنة في الثاني فقط. وهنا يرى فقهاء الحنفية: أن المطلق لا يحمل على المقيد ويجب العمل بكل نص في موضعه الذي ورد فيه ففي كفارة القتل الواجب تحرير رقبة مؤمنة وفي كفارة الظهار الواجب تحرير رقبة مؤمنة أو كافرة. أما فقهاء الشافعية: فإنهم يحملون المطلق على المقيد فلا تصح الكفارة في الظهار والقتل الخطأ عندهم إلا بإعتاق رقبة مؤمنة. أقسام المخصصات المنفصلة: لما أنهى الناظم رحمه الله الكلام على المخصصات المتصلة أخذ يتكلم على المخصصات المنفصلة فقال: ثُمَّ الكِتَابَ بِالكِتَـابِ خَصَّصُـوا *** وَسُنَّــةٌ بِسُنَّـــةٍ تُخَصَّــصُ وَخَصَّصُـوا بِالسُنَّـةِ الكِتَابَــا *** وَعَكْسَـهُ اسْتَعْمِـلْ يَكُـنْ صَوَابَـا وَالذِّكْرُ بِالِإجْمَـاعِ مَخْصُوصٌ كَمَا *** قَـدْ خُصَّ بِالقِيَـاسِ كُـلٌ مِنْهُمَـا اعلم أولاً أن المخصصات المنفصلة ثلاثة: الحس، والعقل، والدليل النقلي وإليك بيانها. 1- الحس: والمراد به المشاهدة ومثاله قوله تعالى: عن ريح عاد {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف:25]، فالآية عامة دخلها التخصيص بالحس حيث دل على أن الريح لم تدمر السماوات والأرض والجبال. 2- العقل: والتخصيص به على قسمين: أحدهما أن يكون بالضرورة: كقوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر:62]، فإنا ندرك بالعقل ضرورة ان ذات الله غير مخلوقة مع أن لفظ شيء يتناوله سبحانه كما قال جل وعلا: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]، وقال: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً} [الأنعام:19]. ثانيهما أن يكون بالنظر: كقوله تعالى: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران:97]، فإن العقل قاضٍ نظراً بإخراج الصبي والمجنون للدليل الدال على امتناع تكليف الغافل. ومنع بعض العلماء أن يكون هذا وما قبله من باب التخصيص وهو إخراج بعض أفراد العام، بل قالوا: أن ذلك من باب العام الذي أريد الخاص وهو أن يكون المخصوص غير مراد عند المتكلم ولا المخاطب بمعنى أنه غير داخل في العام أصلاً بحيث يحتاج إلى إخراج على أن بعضهم قال: أن التخصيص قد يفهم من قوله تعالى: {بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف:25]، وقوله تعالى: {مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} [الذاريات:42]، والله أعلم. 3- الشرع: وهو هذا الذي بينه الناظم وهو المراد في أصول الفقه وتحته قسمان: الأول: تخصيص الكتاب: والمخصص له أربعة كتاب مثله أو سنة أو إجماع أو قياس. 1- تخصيص الكتاب بالكتاب: هذه المسألة ذكرها الناظم بقوله: "ثُمَّ الكِتَابَ بِالكِتَـابِ خَصَّصُـوا" والمراد أنه يجوز تخصيص بعض الكتاب لوقوعه، كقوله تعالى: {وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4]، فإنه مخصص لعموم قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ} [البقرة:228]، فتكون عدة الحامل بوضع الحمل، والآية المذكورة المذكورة آنفاً عامة في المدخول بها وغير المدخول بها فخصت بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب:49]، فخرجت غير المدخول بها من عموم الآية الأولى فلا عدة عليها. 2- تخصيص الكتاب بالسنة متواترة كانت أو آحاداً: وهذه ذكرها الناظم في قوله: "وَخَصَّصُـوا بِالسُنَّـةِ الكِتَابَــا" بألف الإطلاق أي وجوزوا تخصيص بعض الكتاب ببعض السنة المتواترة القولية والفعلية إجماعاً، والآحاد على الصحيح. فمثال تخصيص الكتاب بالسنة القولية: نص قوله تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ} [النساء:93]، بقوله صلى الله عليه وسلم: «من جاءكم وأمركم جميع يريد أن يفرق جماعتكم فاقتلوه» [مسلم]، وكذا قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38]، أخرج منه من سرق أقل من النصاب لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تقطع اليد إلا في ربع دينار فصاعداً» [أحمد ومسلم] وكقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11]، فهي شاملة للولد الكافر وللولد المسلم فقد خص لولد الكفار بحديث «لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم» [متفق عليه]، أخرج القاتل بقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يرث القاتل» [مالك والنسائي والترمذي وللحديث شواهد كثيرة تقويه كما قال البيهقي]، ومثال تخصيص الكتاب بالسنة الفعلية: هو أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم المحصن فكان فعله مخصص لعموم قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} [النــور:2]، وكذلك تخصيص قوله تعالى: {وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة:144]، ثم كان النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة النافلة إذا كان في سفر يكبِّر إلى القبلة ثم يصلي حيثما توجهت ركابه [أحمد وأبو داود]. 3- تخصيص الكتاب بالإجماع: وهذه ذكرها الناظم بقوله: "وَالذِّكْرُ بِالِإجْمَـاعِ مَخْصُوصٌ كَمَا" أي وجوزوا تخصيص الذكر وهو القرآن بالإجماع فهو مخصوص به. وينبغي أن نعلم هنا أن المراد بالإجماع دليله لا أن الإجماع نفسه مخصَّص، لأن الإجماع لابد له من دليل يستند إليه وإن لم نعرفه. والقول بأن التخصيص يحصل بالإجماع نفسه غير صحيح، وإنما التخصيص حصل بالدليل الذي استند إليه الإجماع، وبالتالي فإن هذا إنما هو إجماع على التخصيص استناداً إلى الدليل لا مخصص فوجب على من أتى بعد المجمعين متابعتهم وإن لم يعرف الدليل المخصص. ومن أمثلة هذا القسم قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11]، خُصَّ منه الولد الرقيق بالإجماع، أي أن الإجماع وقع على تخصيص الولد الرقيق. وهذا القسم يجوز عند الجمهور من الحنابلة والمالكية والشافعية والحنفية [انظر شرح الكوكب المنير 3/369 وتيسير الأصول ص108]. 4- تخصيص الكتاب بالقياس: وهذا ذكره الناظم في قوله: ............ كَمَا *** قَـدْ خُصَّ بِالقِيَـاسِ كُـلٌ مِنْهُمَـا يعني كما أنهم خصصوا السنة بالكتاب وخصصوا الكتاب بالسنة كذلك خصصوا بالقياس الكتاب والسنة، فضمير المثنى في "منهما" عائد على الكتاب والسنة وليس عائد لأقرب مذكور وهو "الذكر والإجماع" كما هو متبادر إلى الفهم لأنه لم يقل أحد بتخصيص الإجماع بالقياس، فلو قال بدل هذا البيت بدل هذا البيت دفعاً للالتباس: والذكر بالإجماع عند ناس *** وذاك والسنة بالقياس لكان أحسن من غير باس، اهـ [لطائف الإشارات ص34 بتصرف باختصار]. ومثال تخصيص الكتاب بالقياس قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} [النــور:2]، فإن عموم الزانية خص بالكتاب وهو قوله تعالى: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء:25]، فيقاس العبد الزاني على الأمة في تنصيف العذاب بجامع اشتراكهما في نقص الرق. وهذا القسم يجوز التخصيص به عند جمهور الشافعية والحنابلة والمالكية والحنفية [انظر تيسير الأصول ص609]. القسم الثاني: تخصيص السنة والمخصص لها كتاب أو سنة مثلها أو قياس: 1- تخصيص السنة بالكتاب: هذه المسألة ذكرها في قوله: "وَعَكْسَـهُ اسْتَعْمِـلْ يَكُـنْ صَوَابَـا" أي وعكس تخصيص الكتاب بالسنة وهو تخصيص السنة بالكتاب استعمله يكن استعمالك لما ذكر صواباً. ومثاله: قوله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله» [بخ ومسل]. خص بقوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } [التوبة:29]. وكتخصيص قوله صلى الله عليه وسلم: «ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميِّت» [الحاكم 4/239]، بقوله تعالى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [النحل:80]. 2- تخصيص السنة بالسنة: وهذه المسألة ذكرها بقوله: "وَسُنَّــةٌ بِسُنَّـــةٍ تُخَصَّــصُ" أي جوزوا تخصيص السنة بلسنة لوقوعه، ومثال ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: «فيما سقت السماء العشر» [بخ1421]، فهذا عام في القليل والكثير، والموسَّق وغير الموسَّق، خص بقوله صلى الله عليه وسلم: «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة» [بخ 1340، م 979 من حديث أبي سعيد]، وتخصص السنة بالسنة الفعلية أيضاً فحديث «ليس من البر الصيام في السفر» ليس على عمومه بل هو خاص بمن يضره الصوم فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم في السفر. 3- تخصيص السنة بالقياس: وهذه المسألة ذكرها في قوله .............. كَمَا *** قَـدْ خُصَّ بِالقِيَـاسِ كُـلٌ مِنْهُمَـا وقد سبق شرح هذا البيت. ومثاله: تخصيص قوله صلى الله عليه وسلم: «ليُّ الواجد – أي مطله – يحل عرضه وعقوبته» خص منه الوالد مع ولده، فليُّ الوالد لا يحل عرضه ولا عقوبته قياس على عدم خلافه الثابت بقوله تعالى: {فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء:23]، بالأولى. قوله صلى الله عليه وسلم: «البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام» [م1690 ت ، د] خص من الحديث العبد قياساً على الأمة التي ثبت تنصيف الحد عليها بالقرآن كما تقدم. تنبيه: "إنما جاز تخصيص الكتاب والسنة بالقياس لأن القياس يستند إلى نص من كتاب أو سنة فكأن المخصص هو ذلك النص فرجع الأمر إلى تخصيص الكتاب والسنة بمثلها" [شرح الورقات للفوزان ص92]. المجمل والمبيَّن والظاهر والمؤول: بعد أن انتهى الناظم من تقسيمات الألفاظ وما يعتريها من عموم وخصوص ومن مطلق ومقيد جاء إلى تقسيم آخر من حيث المعنى وهو ما سماه هنا المجمل والمبيَّن. وهذا التقسيم الذي هو التقسيم باعتبار دلالة الألفاظ على المعاني مبني على تقسيم عقلي وهو أن اللفظ من حيث دلالته على المعنى له حالتان: 1- إما أن يدل على معنى واحد لا يشتبه مع غيره فهذا هو النص. 2- وإما أن يحتمل معنيين أو أكثر، فإن كانا على حد سواء فهذا مجمل فإن كان أحدهما أظهر من الآخر وأرجح فحمله على الراجح هو الظاهر وحمله على المرجوح هو المؤول [انظر شرح الورقات للوزان ص93، تيسير الأصول ص30]. قال الناظم رحمه الله: المجمل لغة: مشتق من الجَمْل والإجمال وهو الاختلاط، والجمع والضم، والإبهام وجاء في حديث جابر عن اليهود في الشحم أنهم "جملوها" أي أذابوها وجمعوها. وتقول: أجمل الحساب إذا جمعه. تعريف المبيَّن: هو مشتق من التبيين وهو التوضيح لغة، والمبيِّن بكسر الياء هو الموضِّح لغة، في الاصطلاح: الكاشف عن المراد من الخطاب بالفتح الموضَّح لفتح الضاد. تعريف المجمل اصطلاحاً: عرفه الناظم بقوله: مَـا كَـانَ مُحْتَـاجًـا إِلَى بَيَـانِ *** فَمُجْمَــلٌ................ يعني أن تعريف المجمل: هو ما احتاج وافتقر إلى البيان من دليل منفصل بعدم إيضاح دلالته فيشمل القول والفعل إذا لم يعلم وجهه كسلامه صلى الله عليه وسلم في الرباعية من ركعتين فدار فعله بين النسخ والسهو. فخرج من التعريف المهمل إذ لا دلالة له، والمبيَّن لاتضاح دلالته. وقيل في تعريفه: "ما احتمل معنيين أو أكثر على السواء" [انظر تيسير الوصول، والواضح ص29]. تنبيه: المجمل إذا فُسِّر أصبح مبيَّناً. الذي يحصل به البيان: "طرق البيان": يبين النبي صلى الله عليه وسلم المجمل تارة بقوله، وأحياناً بفعله، أو بتركه أو بتقريره، أو إشارته، أو بكتابته كما بيَّن بها أنصبة الزكاة ومقاديرها، ومن أمثلة بيان المجمل بفعله بيان صفة الصلاة ومناسك الحج، وكقطعه يد السارق من الرسغ، ومثال البيان بقوله: بيانه في معنى: الخيط الأبيض والخيط الأسود من الفجر" بأنه بياض النهار وسواد الليل، وبيانه للمراد من القوة في قوله تعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} [الأنفال:60]، فقال: «ألا إن القوة الرمي» [مسلم] وأمثلته كثيرة، ومثال البيان بالترك: قيامه صلى الله عليه وسلم ليالي رمضان بالجماعة ثم تركه إياه فهو بيان لعدم فرضيته على الأمة، وهذا النوع داخل في البيان بالفعل. وقد يتبين المراد بالمجمل من السياق كحديث: «الخالة بمنزلة الأم» المراد: في الحضانة لأن السياق ورد في الحضانة دون الميراث مثلاً، قال ابن دقيق العيد في أحكام الأحكام 2/232: "السياق طريق إلى بيان المجملات وتعيين المحتملات وفهم ذلك قاعدة كبيرة في أصول الفقه ولم أر من تعرض للكلام عليها في أصول الفقه إلا بعض المتأخرين" أهـ [انظر الواضح في أصول الفقه لمحمد الاشقر ص133]. أسباب الإجمال: أسباب الإجمال ثلاثة: أ- عدم معرفة المراد: ويزول الإجمال بتعيين المراد. ولعدم معرفة المراد أسباب منها: 1- الاشتراك: وهو دلالة اللفظ على معاني حقيقةً فيصير لأجلها مبهم المراد كلفظ القرء الذي مثل به الناظم في المجمل، وذلك كما في قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ} [البقرة:228]، فالقرء مجمل بسبب الاشتراك لأنه متردد في المعنى بين الحيض والطهر، فحمله الشافعي على الطهر وحمله أبو حنيفة على الحيض وللفقهاء في هذا ترجيح أحدهما على الآخر مناقشات طويلة فليرجع فيها إلى مظانها" وهي لا تهمنا في بحث الأصول لأن الأصولي لا يبحث في مسألة جزئية فرعية ولكن يذكر الأمثلة الفرعية في الفقه ليبين القاعدة. ومن أمثلة الألفاظ المشتركة "عسعس الليل" فهي بمعنى أقبل أو بمعنى أدبر وكالعين تكون بمعنى الباصرة والجارية والذهب والجاسوس...الخ. وقسورة كما في قوله تعالى: {فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ} [المدثر:51]، يراد بها الصياد ويراد بها الأسد. إذن فمدلولها أكثر من معنى واحد. [انظر الواضح ص130، تيسير الأصول ص37]. 2- المركبات المحتملة: كقوله تعالى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة:237]، يحتمل أنه "الزوج" لأن بيده عقدة النكاح بعد عقد الزواج، و"الولي" لأن بيده العقدة قبل عقد الزواج. 3- التصريف: مثاله قوله تعالى: {لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} [البقرة:233]. فإن كلمة "لا تضار" تحتمل أن تكون "لا" للنفي أو للنهي. كما تحتمل أن تكون أصلها "لا تُضارَرْ" فيكون الضرر عائد إلى الأب من جانب الأم فتثبت الحضانة للوالد، أو تكون "لا تُضارَرْ" فيكون الضرر عائداً إلى الأم من جانب الوالد فتثبت الحضانة للأم. 4- غرابة اللفظ: كما في قوله تعالى: {إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا} [المعارج:19]، فكلمة هلوع غريبة فسَّرها الله تعالى فيما بعدها من الآيات. إلى غير ذلك من الأسباب [انظر الواضح في أصول الفقه ص130 وتيسير الأصول ص37]. ب- ثانياً: عدم معرفة الصفة: ويزول الإجمال ببيان الصفة: ومثاله: قوله تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ} [البقرة:43]، فإن صفة إقامة الصلاة مجهولة تحتاج إلى بيان فحصل بيانها بالقول والفعل من الرسول صلى الله عليه وسلم. ج- عدم معرفة المقدار: ويزول الإجمال ببيان المقدار: ومثاله قوله تعالى: {وَآتُواْ الزَّكَاةَ} [البقرة:43]، فإن مقدار الزكاة يحتاج إلى بيان فحصل بيانه لقول الرسول صلى الله عليه وسلم. حكم المجمل: التوقف عن الاستدلال به حتى تترجح إرادة أحد المعنيين بدليل. تعريف البيان اصطلاحاً: ولما عرَّف الناظم المجمل انتقل إلى تعريف البيان لافتقار المجمل إليه. فقال: ........................ *** .......... وَضَــابِـطُ البَيَــانِ إِخْرَاجُـهُ مِنْ حَـالَـةِ الِإشْكَـالِ *** إِلَى التَّجَـلِّي وَاتِّضَــاحِ الحَــالِ البيان لغة: اسم مصدر بمعنى التبيين وهو الإيضاح والإظهار كالسلام بمعنى التسليم والكلام بمعنى التكليم. اصطلاحاً: هو إخراج الشيء من حال إشكاله وعدم فهم معناه إلى حال التجلِّي وهو حال اتضاح معناه وفهمه. ويتم هذا ببيان الصفة والمقدار أو تعيين المراد كما تقدم. شرح بعض ألفاظ التعريف: المراد بالإخراج: إظهار معنى المبيَّن للمخاطب وإيضاحه، وهذا على أن البيان يطلق على فعل المبيِّن وهو التبيين. الإشكال: هو خفاء المراد بحيث لا يدرك المراد منه. وقول الناظم: كَالقُـرْءِ وَهْـوَ وَاحِـدُ الأَقْـرَاءِ *** فِي الحَيْـضِ وَالطُّهْـرِ مِنَ النِّسَــاءِ تمثيل للمجمل وقد تقدم، وقوله "من النساء" بيان لما قبله وهو لبيان الواقع وتكملة. تنبيه: المجمل يقابله المبيَّن أو البيِّن. والمبيَّن أو البيِّن: هو ما لا يحتاج إلى بيان. والمبيِّن بكسر الياء: هو الذي يخرج هذا المحمل من حالة الإشكال إلى حالة الوضوح. النص: ولما عرَّف المجمل وعرَّف البيان ذكر النص لأنه هو المبيِّن للمجمل. قال الناظم رحمه الله: وَالنَّـصُ عُرْفـًا كُـلُ لَفْـظٍ وَارِدِ *** لَمْ يَحْتَمِــلْ إِلَّا لِمَعْـنىً وَاحِــدِ كَقَـدْ رَأَيْتُ جَعْفَـرًا وَقِيـلَ مَـا *** تَـأْوِيـلُـهُ تَنْـزِيـلُـهُ فَلْيُعْـلَمَـا اعلم أن البيان كما تقدَّم مأخوذ من التبيين الذي هو فعل المبيِّن بكسر الياء وهو الموضَّح، وبفتحها المبيَّن الذي هو الموضَّح وهو النص. تعريف النص لغة: قال في المصباح المنير ص608: "نص النساء العروس نصاً رفعنها على المِنصة وهي الكرسي الذي تقف عليه في جلائها بكسر الميم لأنها آلة. والنص مأخوذ من نصت الظبية عنقها إذا أخرجت رأسها تتلفت لترَ من هنا ومَنْ هناك. والنص أيضاً: التعيين التحديد ويقال: "نصُّو فلاناً سيداً" أي عيَّنوه لهذا المنصب. ومناسبة النصب بالمعنى الاصطلاحي للمعنى الأول وهو الرفع، هو لارتفاع النص على غيره في فهم معناه من غير توقف. ومناسبة للمعنى الثاني: أن النص يدل على معنى معيناً محداً لا يحتمل غيره. اصطلاحاً: له معانٍ منها ما ذكره الناظم: كل لفظ لا يحتمل إلا معنى واحداً. أمثلته: 1- كقوله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} البقرة:196]، فهذا لا يحتمل ما زاد على العشرة ولا ما نقص عنها. فيخرج بذلك المجمل والظاهر والمؤول. 2- ومن أمثلته ما ذكره الناظم "لقد رأيت جعفراً" فلا يحتمل رؤية مثلاً زيد أو عمرو. 3- ومن أمثلته كقوله تعالى: {فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [الأعراف:142]، فإنه لا يحتمل أقل أو أكثر من أربعين. 4- وقوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ} [هود:75]، فإنه نص بموجب السياق في إثبات هذه الصفات العليا لإبراهيم عليه السلام. 5- وقوله تعالى: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران:97]، فإن البيت لا يحتمل مكاناً آخر سوى البيت العتيق وهو نسك الحج. 6- وقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ...} [البقرة:183]، فإنه شهر رمضان لا يحتمل رجب ولا شعبان ولا شهر آخر. تعريف آخر للنص: وقول الناظم: "وَقِيـلَ مَـا *** تَـأْوِيـلُـهُ تَنْـزِيـلُـهُ" أي وقيل في تعريف النص "لفظ تأويله- أي حمله على معناه وفهم المراد منه – تنزيله أي يحصل بمجرد %D